أزرق

أزرق

يطلقون عليها الزرقة الرميّة

الاسم نفسه مثير للتوجس .. لكنها علامة مهمة جدا فى الطب الشرعى لانها تحدد الموضع الذى كانت عليه الجثة فى الساعات القليلة التالية للوفاة.. ولكم من منتحر وجدوا الزرقة الرمية على ظهره مما جعلهم يدركون انه قتل قتلا على الارض ثم علقه قاتله على المشنقة ليخدع رجال الشرطة

ان القصص المشابهة كثيرة جدا

*******

يطلقون عليها الزرقة الرميّة

وانا احب اللون الازرق واكره ان يرتبط بشىء رهيب مثل الموت.. لكن للاسف يظل لون الجثث الباردة والاطراف المرشحة للبتر ازرق.. اردنا هذا او لم نردكنتُ طالبا فقيرا فى تلك المدينة الصاخبة العجوز.. لا تسال عن الظروف ولا الضغوط التى جعلتنى اعمل فى المشرحة فنحن لا نختار الوظائف التى تعرض علينا وقد كنت فى حاجة ماسة للمال

كان صاحب المشرحة ومديرها ورئيس مجلس اداراتها هو عم عثمان وهو رجل نوبى ظريف له جلد يشبه الباذنجان الاسود.. وكان من اسرة اعتادت العمل هنا منذ دهور.. فى كل عام تطرح المستشفى مناقصة لمن يتولى امور المشرحة لاعلى ايجار فكان هو يفوز بها فى كل مرة ومن يمنعه من ذلك يكن هو الجثة التالية الراقدة فى هذه المشرحة

والسبب؟ من قال ان عمل المشرحة ليس مربحا؟ انه حانوتى يكسب الكثير ودخول المتوفين فى المستشفى اجبارى الى مشرحته هو.. لا احد يهرب عندها يعامل اهل المتوفي كما ينبغي.. اسعار سياحية لا تسمع عنها الا في افخم فنادق البحر الاحمر والناس مضطرة الى الدفع لانهم يريدون انهاء عذابهم سريعا كنت اساعده عمله وبالطبع انال جزء من الغيمة لم اكن اتلقى راتبا لكن النسب التى كان يمنحني اياها كانت تكفيني لاسدد مصروفاتي وارسل مائتين او ثلاثة الي اسرتي في القرية.. طبعا لم يكن احد في بلدني يعرف طبيعة عملي.. كنت ازعم لهم انني انسخ المستندات في مكتب ما

لو عرفت امي بمصدر المال الذي ارسله لتشاءمت وابت ان تمسسه.. وهو تفكير قاصر طبعا لان العمل هو العمل.. لابد من بائس ما يغطس فى المجارى لتسليكها ولابد من بائس ما يقوم بربط فكوك الموتى بالشاش, هذه اشياء كصلاة الجنازة ان قام بها واحد سقطت عن الجميع وان لم يقم بها احد اثم الجميع

*******

على ان لهذه المهنة نفعا لا شك فيه.. انها تعلمك التواضع.. تجعلك متدينا بحق ما لم تكن لصا اصيلا مثل عم عثمان.. انت هنا تعيش فى المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة وكل زبائنك كانوا يمزحون ويدخنون ويدبرون المكائد منذ اربع او خمس ساعات.. الان هم اشياء رهيبة ترقد بانتظار من يريحها الراحة الاخيرةانها لعبة كراس موسيقية.. اليوم انت واقف هنا وهم رقود.. غدا انت راقد على هذه المنضدة وهناك من يقف.. لهذا كنت اكثر من قراءة القران واحافظ على ميقات الصلاة بدقة

سوف اعترف بان هذه الفترة هى اخصب فترات حياتي من الناحية الدينية

اعتقد ان الامر يتعلق بدرجة معينة من الشفافية.. ثمة حاسة سابعة او ثامنة قد استيقظت فى اعماقى مع هذه التجربة الغريبة.. التدين.. معايشة الموت.. العزلة.. الجهد الصادق.. وفي الايام الاخيرة تكررت معي الحوادث الغامضة التي تمر بنا.. من حين لاخر تفكر في صديق فتجده امامك.. تشعر بانقباض فتحدث كارثة الخ

لكني لم احاول ان اتوقف كثيرا مع هذه الاحداث بدأ كل شىء امس


*******

فى التاسعة مساء دخلت المحفة الى المكان.. حينما تمارس اية مهنة لها علاقة بالطب او الموت لابد ان تميز اذانك صوت المحفة وهى بعد في الممر الخارجى.. وكنت وحدى تلك الليلة

كان الراقد علي المحفة رجلا فى الخمسين من العمر يبدو انه ليس معدما

وقال لي احد الرجلين اللذين جاءا به وهما رجلان لم ارهما قط هنا

ـ وجدوه ميتا فى الزقاق المجاور.. لايبدو ان هناك جريمة فى الامر لا اوراق.. انه ناقص الاهلية وقال اخر وهو يجفف عرقه

ـ ربما كانت اسرته تفتش عنه الان.. وربما لم تكن له اسرة.. لا نعرف

رفعت الملاءة وتاملت وجهه ثم سالت فى حيرة

ـ ماسر هذا اللون الازرق الذى تلون به جلده بالكامل قال احدهما بلا مبالاة

ـ وماالفارق؟ لو كان لونه احمر لسألتَ السؤال ذاته وقال الاخر بلا مبالاة هو ايضا

ـ ربما كان يشتغل فى الازرق

قالها دون ان يضحك وكذا لم يضحك احد.. هناك دعابات لكنها لا تطالب بجمهور او حق اداء علني.. تقال لمجرد اخراج الملل او الضغط العصبى.. على كل حال لابد ان عينى ليستا على مايرام فانا اشعر ان المسعفين ايضا لونهما ازرق.. معنى هذا انني اخرف وهكذا تسلمت هديتهما الرهيبة ففتحت درج الثلاجة الكبير ووضعت فيها ذلك البائس

لم يكن الطب دراستى لكني قرأت كل ما وقع فى يدي من مواضيع طبية كتبت بالعربية.. هناك حالات معينة من الموت بالغازات تسبب هذا اللون الازرق.. اول اكسيد الكربون يجعل لون القتيل احمر لذا يسمونه الموت الاحمر.. لن اعرف الاجابة لكن دعني اؤكد لك ان زرقة هذا المتوفي كانت تختلف عن زرقة الموتى التي اعرفها.. كأن هناك من القاه فى دلو به طلاء ازرق بمجرد وفاته

*******
بعدما خلا المكان عدت الى جلستي السابقة.. كوب الشاي ولفافة التبغ
أعترف انني كنت ادخن من حين لاخر وهى خطيئة بالنسبة لمن هو مثلي فى حاجة لكل مليم.. لكني كنت اسمح لنفسي بها من وقت لاخر لاعتقد انني امرح.. جوار لفافة التبغ الكتاب الذي كنت ادرس فيه فأنا طالب الاداب برغم كل شىء
حاولت ان اركز فيما اقرأ لبعض الوقت لكن شعورا غريبا من التوتر استبد بي.. اعرف هذا التوتر غير القابل للتفسير والذي يحدث احيانا ويمضى احياناخوف؟ لا.. لقد كفت هذه المهنة عن ان تثير فيّ اي شىء سوى الملل
خيل لي انني اسمع صوتا ما داخل الثلاجة.. هذا ايضا شىء معتاد فى المهنة.. لابد حينما تكون وحيدا ليلا ان تسمع جلبة من حيث يرقد الموتى
ظاهرة ينتصب لها شعر رأسك فى البداية ثم تتعلم مرة بعد مرة ان المصدر الوحيد للصوت هو عقلك المكدود لكني قررت برغم كل شىء ان انهض متثاقلا اتجهت الى الثلاجة وفتحت درجها العملاق.. كان المتوفي حيث هو لم يتحرك..
ازحت الملاءة واعدت النظر الى وجهه بالفعل تتزايد الزرقة اكثر فاكثر.. لابد من تفسير لهذه الظاهرة.. انه رجل اشيب الشعر له ملامح نبيلة.. أنفه معقوف كمنقار النسر وله شفتان رفيعتان حازمتان واضح انه لم يتعذب كثيرا اثناء احتضاره قرأت الشهادتين واعدت الدرج وعدت الى منضدة الدراسة
*******
بعد قليل سمعت صخبا.. اعرف هذا النوع من الضوضاء
كان القادم هو مدير اعمالى عم عثمان.. جاء ليمضي بعض الوقت هنا ويتفقد الاحوال
لم يكن وحده كان معه رجلان وقد حياني بطريقته النوبية الظريفة ثم اقتادهما الى الحجرة الجانبية الصغيرة التي كانت حماما ثم جعلها مكتبا له.. وهو اغرب مكتب يمكن تخيله
مكتب له دش يتدلى من السقف وماسورة تنحدر على السيراميك.. وكان فى المكان مكتب عتيق صدىء من طراز ايديال وثلاثة مقاعد خشبية من طراز مقاعد المقاهي.. لهذا كان يطلق على المكان ببساطة اسم الدورة
دخلت الى حيث جلس مع الرجلين وانتشر الدخان فى هواء الغرفة الضيقة فنقلت له خبر القادم الغريب.. هز رأسه بمعنى انه مطمئن لكل شىء ما دمت موجودا كان يتكلم بينما انا انظر الى الرجلين
هذا الوجه..
هذا الوجه..
الرجل الذي يلبس قميصا أبيض
هذه الملامح الوقورة
هذا الانف المعقوف الشبيه بمنقار النسر
هذا الشعر الأشيب أين رأيت هذه الملامح من قبل؟
*******
بعد قليل خرج عم عثمان من الغرفة ليرى ما لدي كنت اجلس فى تلك القاعة رديئة التهوية والاضاءة اطالع كتبي.. عندما دخل عليّ فسألته عن هذين القادمين معه قال وهو يصلح عمامته
ـ صديقان
ثم اتجه الى الثلاجة ففتحها وسمعته يشهق نظرت الى حيث وقف وانا اتوقع منه تعليقا عن اللون الازرق لكنه قال فى حيرة
ـ أين وضعته؟
دنوت منه اكثر فوجدت ان الدرج خال.. نعم.. خال تماما

*******

صحت فى هلع وغباء
ـ كان موجودا.. اقسم بالله انه موجود.. انا لا افهمنظر لي بعينيه التي يكتسي بياضهما باللون الاصفر كطبيعة السود ولم يعلق.. فقط قال لي
ـ يبدو انك مرهق.. هل غادر المرحوم الثلاجة؟ لا اظن
قلت في جنون
ـ طبعا لا انا لم افارق المكان.. لم يسرقه احد.. انا لا افهم.. انا لا افهم ثم صحت وقد تذكرت
ـ رجلا سيارة الاسعاف احضراه.. سوف يؤكدان لك الامرقال وهو يغلق الدرج
ـ إما ان الجثة سرقت منك وانت جالس هنا كأنك مقطف.. واما انك تكذب او تتخيل
ـ لا هذا ولا ذالك ولا ذاك
فى هذه اللحظة ناداه احد الرجلين فنظر لى بسرعة ثم عاد الى الغرفة التي كانت حماما فصارت مكتبا كنت انا افكر بلا انقطاع.. الرعب الحقيقى هو ان حواسى تخدعنى.. أفضّل ان يكون الميت قد نهض وفر لكن لا تقل لي من فضلك ان حواسي تخدعني هكذا ظللت احك فروة راسي كالمجانين محاولا ان افيق.. افيق..؟ من ماذا افيق؟.. من حالة الاوعي التي تمر بي لا اعرف متى رحل الثلاثة.. لابد ان عم عثمان لم يرد ان يضايقني ثانية.. غدا سيناقش هذه الامور معي بشكل اوضح
وامضيت الوقت انظر فى الكتاب غير عالم كيف يجب ان افكر

*******

هل اصارحك بشىء؟ كانت هذه اسوأ ليلة في حياتي.. لقد مر الوقت ثقيلا واستعدت كل المخاوف القديمة من الموت على انني في الثانية بعد منتصف الليل تذكرت اين رأيت تلك الملامح التي رأيتها على الجثة.. رجل اشيب الشعر له ملامح نبيلة.. انفه معقوف كمقار النسر وله شفتان رفيعتان حازمتان
ان هذا بالذات هو الرجل ذو القميص الابيض الذي كان يجلس مع عم عثمان.. نعم لاشك في هذا
لابد من تفسير لهذا.. هل فر الميت من الثلاجة ليجلس مع صديقيه؟ هل هو اخو المتوفي التوءم مثلا؟
المشكلة انني لو صارحت عم عثمان بهذا الرأي لاضفت نقطة اخرى الى سجل خيالي فى الرابعة صباحا سمعت صوت المحفة هذه المرة.. رأيت مسعفين يدخلان المشرحة وهما يحملان محفة عليها وجه مكسو بملاءة كنت اعرف هذين الرجلين جيدا منذ بداية عملي هنا وقد حياني احدهما وقال
ـ وجدوه ميتا فى الزقاق المجاور.. لا يبدو ان هناك جريمة فى الامر لا اوراق انه ناقص الاهلية
وقال اخر وهو يجفف عرقه
ـ ربما كانت اسرته تفتش عنه الان.. وربما لم تكن له اسرة.. لا نعرف هذه المحاورة تبدو مألوفة

*******

دنوت من الجثة وكشفت الوجه وارتجفت.. للحظة كف قلبى عن الخفقان
هذه المرة بلا لون ازرق ولا شىء.. مجرد جثة يبدو السلام على وجهها.. انه الرجل ذو القميص الابيض الرجل اشيب الشعر بملامحة النبيلة وانفه النسري وشفتيه الرفيعتين لقد مات.. انه صديق عم عثمان.. لا شك فى هذا وحينما انصرف المسعفان رحت افكر فى معنى هذا كله.. جثة زرقاء تصل من جديد غير زرقاء فى الرابعة صباحا صاحب الجثة بلا شك هو ذلك الرجل الذي كان جالسا فى الدورة ما معنى هذا؟
يقولون ان الميت يكون ميتا بالفعل اربعين يوما قبل موعد وفاته الحقيقي.. فى هذه اللحظات يجلس مع الناس ويتكلم وهو لا يعلم وهم لا يعلمون انه ميت فى وقت مفترض
حكيت هذه القصة ذات مرة لعم عثمان فضحك ساخرا وقال ان هذه خرافات.. عندهم فى النوبة يعتقدون ان هذه الفترة نصف يوم..... ثم ماذا؟؟؟ لا اذكر كل ما قاله لي
الان لنفترض ان حالة الشفافية التي مررت بها منحتني هذه الموهبة العجيبة.. لقد رأيت الرجل ميتا قبل ان يموت فعلا بسبع ساعات او اقل وكانت العلامة التى منحتها هى انني رأيته مصبوغا باللون الازرق.. بعد هذا فارق الرجل الحي رفيقيه وامضى امسية مع رفاق اخرين.. امسية ارهق فيها صحته طبعا او دخن جرعة اكثر من اللازم من المخدرات.. وكل اصدقاء عم عثمان مدمنو مخدرات بالمناسبة.. هكذا اصابته تلك النوبة القلبية فى الزقاق المجاور للمستشفى ووجدوه.. احدهم وابلغ الاسعاف
هل هذا السيناريو ممكن؟

*******

كنت غارقا فى هذه الخواطر فى الخامسة والنصف صباحا عندما تردد الصوت الرهيب من جديد.. هذه من الليالى الصاخبة اذن على انني تصلبت عندما رأيت المسعفين اللذين كانا يدفعان المحفة.. انهما المسعفان اللذان رأيتهما اول مرة.. اللذان أحضرا الجثة الزرقاء
حقا انني احمق لماذا لم اهتم كثيرا بلونهما الازرق الذى لاشك فيه؟
هل هما شبحان؟ هل هما ميتان؟
حاولت الا اظهر جزعى بينما هما يقفان امامي بحملهما الرهيب قال احدهما
ـ شاب دهمته سيارة مسرعة انها ميتة شنيعة
لم أعلّق.. فقط دنوت من المحفة ورفعت طرف الملاءة لأرى صاحب هذه الجثة
بالفعل كان اللون الازرق يغمر كل شىء.. والان فقط تذكرت باقى ما قاله عم عثمان ليقال لي ان هؤلاء الذين يكونون ميتين فعلا وهم لا يعلمون يكسبون شفافية خاصة.. انهم يرون ما لا يراه غيرهم.. يرون اولئك الذين سيموتون مثلهم فى الساعات القادمة الان أتذكر هذه الكلمات.. وافهم لماذا اكتسبت هذه الشفافية
إن الوجه الأزرق الراقد على المحفة كان وجهي انا

*******

-تمت-
-د.أحمد خالد توفيق-
من مجموعة بريدية طارق فاروق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق