المُفسِدون في الأرض (5)

المفسدون في الأرض (5)
الحجاج بن يوسف الثقفي نسيب إبليس!
عندما يكون الحديث عن نوع جديد من الفساد يتمثل في ممارسة أعتى أنواع القتل والتعذيب وضرب المقدسات باسم السلطة وحماية الدولة... عندما يُقنن العدوان على النفس التي حرّم الله المساس بها إلا بالحق ويتحوّل لأمر مُبرر وواجب لحفظ النظام... عندما يكون الخوف هو العلاقة الوحيدة بين الحاكم والمحكوم، وعندما نتحدّث عن الرجل الذي فعل كل هذا... فنحن -بالتأكيد- نتحدّث عن "الحجاج بن يوسف الثقفي".. رجل بني أمية القوي وسيفهم البتّار.

هو من أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للجدل. أقلية رأته مظلومًا متحاملاً عليه من قِبل المؤرخين، وأغلبية أجمعت على أنه أعتى الظالمين وأن عهده كان نكبة على دولة العرب والمسلمين وعلى الإنسانية كلها.. ولأن أعمال المرء هي التي تقيّمه، فإن كفة القائلين بالرأي الثاني هي التي ترجح.. إذ إنه -أي الحجاج- فعل من الفظائع ما لا يمكن تجاهله، ونحن إذ ننظر إليه نجد أنفسنا ننظر لشخصين مختلفين. فهو من جانب.. رجل صوّام قوّام مُصلي، خاشع في الصلاة دامع العين عند ذكر الله، مشجع على التفقه في الدين ودءوب على إرسال السرايا والجيوش للغزو في سبيل الله. ومن جانب آخر... سفاح سفاك للدماء جريء على الظلم والبطش يمكنه أن يذبح مئات الأبرياء دون أن يطرف له جفن! شخصية لا يحتاج عرضها إلى مؤرخ بقدر ما يحتاج إلى محلل نفسي لهذا الرجل الذي نشر نوعًا خطيرًا من الفساد الفكري يتمثل في مبدأ "كل شيء مباح لحماية الأمن والنظام، ولو كان الثمن أرواح الأبرياء وأمنهم ذاته"! ذلك المبدأ الذي استمر إلى يومنا هذا، ولكن بصور وأشكال مختلفة.

صعود الحجاج

كان الحجاج رجلاً من قبيلة ثقيف التي تعيش بالطائف يعمل كمعلم للأطفال، يعلمهم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. لكنه شعر أن الطائف تضيق عن طموحاته العريضة، وساهم في شعوره هذا سوء تصرف ولاة الطائف الذين عيّنهم عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- الذي كان قد أعلن نفسه خليفة على الحجاز والعراق.

هؤلاء الولاة كانوا يُسيئون معاملة أهل الطائف بشكل زرع في نفس الحجاج يقينًا أنه لن ينال حقه في الاحترام إلا إذا أصبح من ذوي السطوة والقوة، فهاجر إلى دمشق عاصمة خلفاء بني أمية الذين كانوا ينافسون ابن الزبير على السيادة على الحجاز وأرض العراق. وبالفعل سافر الحجاج وانضم لشرطة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان يشكو تراخي رجال شرطته وافتقادهم الضبط والربط، فاستغل الحجاج ذلك وأظهر لزملائه من البأس والالتزام ما زرع في قلوبهم هيبة منه ودفع رئيسهم "رَوح بن زنباع" إلى ترقيته وتقديمه للخليفة الذي استشعر مواهبه القيادية فجعله من قواد حربه ضد أعداء السلطة. وهكذا، أصبح الحجاج -وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره- أحد كِبار رجال الدولة الأموية.

جبروت الحجاج وجرائمه

أبدى الحجاج -من البداية- غلظة قلب شديدة في إدارته لما وُكّل إليه من مهام. فحين وُكلت إليه مهمة تجنيد أهل الشام في الجيش أعلن بشكل صريح أن على كل قادر على حمل السلاح الخروج مع الجيش وإلا قُتِل وحُرِقت داره. ولكي يُثبت جديته قام بقتل رجل لم يستطِع تنفيذ الأمر لمرضه بالفِتاق، بل وكان يبادر بقتل أي شخص يُبدي ولو تبرمًا بسيطًا من أمر يوجهه أو قول يُعلنه، بغض النظر عما إذا كان هذا الشخص شابًا أم شيخًا مريضًا أم رجلاً من العبّاد أو الفقهاء. وكان يقول -ويُقسم- إنه لو أمر الناس بالخروج من أحد أبواب المسجد فخرجوا من الآخر، لحلّت له دماؤهم وأموالهم!

بل ولم يكن يوقفه عند حده كون خصمه أحد الصحابة أو التابعين، فعلى سبيل المثال، كان الحجاج -خلال ولايته على الحجاز- يتعمّد الإساءة لأنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضايقته واضطهاده كل حين هو من سواه من الفقهاء والصالحين. فقد كان يؤمن -كما أعلنها قبل ذلك- أن هؤلاء يُحدّثون الناس عن سِير الخلفاء الراشدين فيجعلونهم يُقارنون بينهم وبين خلفاء بني أمية، فيستصغرون شأن الأمويين. وذلك كان يجعل من سياسته أن يهين الصالحين وأهل الحديث ليمنعهم من التحدّث إلى الناس بالحق.

وكان أكثر كلامه في خطبه لمن تولى أمرهم، كأهل العراق بعد أن وضع الأمويون يدهم عليها تهديدًا ووعيدًا. فقد قال في خطبته لأهل العراق حين عُيّن واليًا عليهم: "يا أهل الكوفة (عاصمة العراق).. إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى!". هذا فضلاً عن ما جاء في خطبته الشهيرة تلك من "وصلة" طويلة من السب واللعن والذم في رعيته وتهديدهم بكل شنيع من العقاب.. مما ينطبق عليه بشدة قول: "أول القصيدة كُفر"!

ولم يتوقف بإساءاته وبذاءة لسانه عوام الناس فقط، بل امتد بذلك إلى أنبياء الله، فوصف نبي الله سليمان -عليه الصلاة والسلام-بأنه "حسود" تعليقًا على دعاء ربه أن يهبه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!

وكانت فيه جرأة على الإفتاء في الدين بما ليس له به علم بل وفرضه بقوة السلاح وتحت التهديد بالقتل. فقد أفتى بعدم جواز قراءة القرآن على قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وكان يقول إنه لو وجد مصحفًا به القرآن على القراءة المذكورة لكشطه ولو بضلع خنزير، ثم يتبع قوله هذا بسبّ ابن مسعود والقول بأنه لو كان عبد الله بن مسعود حيًا لقتله.

أما الجريمة الأكثر شهرة للحجاج فقد كانت ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق عندما حاصر مكة المكرمة وتحت إمرته جيش الشام الأموي؛ من أجل أسر عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- وتوطيد مُلك بني أمية في الحجاز، بعدما وطده في الشام والعراق.

كان ابن الزبير قد اتخذ مكة عاصمة لخلافته ورفض مبايعة بني أمية؛ لأنه رأى فيهم مغتصبين للحكم ومغيرين للنظام الإسلامي لسياسة المسلمين. فقام عبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي الخامس- بإرسال الجيوش؛ لطرد رجال ابن الزبير من العراق ومكة والمدينة. كان عبد الله بن الزبير قد تحصّن في مكة وشحنها بالرجال والسلاح، فأمر الحجاج جيشه باتخاذ المواقع للحصار من فوق الجبال المحيطة بمكة. وقام بنصب المجانيق على قمم الجبال لقصف البلد الحرام! وبالفعل انطلقت القذائف الصخرية والمشتعلة نحو البلدة المقدسة وبلغت الكعبة التي أصابتها الشروخ واشتعلت فيها النيران -كل هذا بجرأة بالغة وعين لا تطرف- وعندما هوت صاعقة على أحد المجانيق فأحرقته وقتلت بعض العاملين عليه شعر المقاتلون أن تلك الصاعقة غضب من الله لانتهاك حرمة بلده الحرام، فسارع الحجاج بالقول إن تلك الصاعقة علامة على رضا الله لا سخطه، مبررًا ذلك بأن هابيل وقابيل ابني آدم -عليه الصلاة والسلام- عندما قرّب كل منهما قربانًا لله ورضا الله عن قربان هابيل، أرسل من السماء لسانًا من نار فالتهمه، فتلك الصاعقة لسان النار الذي يعلن رضا الله عما يفعل جيش الحجاج! -وهو قول لا يصدر إلا عن رجل بلغت جرأته على الله ومقدساته درجة مخيفة!

استمر ضرب مكة واشتد الحصار وبدأ أتباع ابن الزبير يتخلون عنه حتى صار وحده، لكنه أصرّ على الصمود فاقتحم الحجاج وجيشه الحرم المكي وقتلوا عبد الله بن الزبير وقطعوا رأسه وصلبوا جسده منكسًا؛ ليعلن جريمة وحشية جديدة للحجاج.

تلك الفعلة الشنعاء -على فظاعتها- لم تكن أشد مما اعتاد عليه الحجاج من سفك لدماء الناس، التي يقول الدين إنها أكثر حرمة من مكة ذاتها! فقد كان غشومًا مسارعًا للخوض في الدم والقتل والاعتقال لمجرد الشبهة، حتى أنه حين مات كان قد بلغ عدد قتلاه مائة وعشرون ألف نفس، وعدد مَن في سجونه ثمانون ألف مسجون منهم ثلاثون ألف امرأة! وهي أرقام ضخمة في زمننا هذا فما بالنا بزمن الحجاج حيث كان عدد الناس أقل!

ما قيل عن الحجاجولأن الحجاج كان "حالة" صارخة شديدة الشذوذ نفسيًا وسلوكيًا، ولأن أفعاله كانت قد بلغت خطورة مخيفة، فقد أثار أقاويل الناس. بل أنه ذُكِرَ في الأحاديث قبل حتى أن يُولد! فقد تنبأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن قبيلة ثقيف سيخرج منها "مبير" أي "مُهلِك قاتل". وقال الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وكرّم وجهه- إن ثقيفًا سيخرج منها فتًى يقال له يوم القيامة "أكفنا إحدى زوايا جهنم". وقال عنه أيضًا فيما جاء في الحديث إنه سيأتي من ثقيف فتى لا يَدَع معصية إلا ارتكبها ولو كان بينه وبينها باب لكسره. كما قال عنه الخليفة عبد الملك بن مروان إن بينه وبين إبليس نسبًا، وقال عنه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه: "لو جاءت كل أمة بخبثها وجِئناهم بالحجاج لكفيناهم". بل وقد قال عنه أبوه نفسه -قبل أن يتولى الحجاج أي من وظائف السلطة: "إنه -أي أباه- ليرى الله جعله جبارًا شقيًا".

نهاية الطاغية

بينما هو يعيش نشوة انتصاراته وأوج قوته، فاجأ المرض الحجاج بن يوسف فسقط سريعًا أمامه، وعاش أواخر أيامه يتعذّب من آلام مرض موته، ويقال إن جوفه أصابه التعفّن حتى كان الدود يعيش فيه. وكان كلما تلوى ألمًا يقول: "أصابتني دعوة سعيد بن جبير". وسعيد بن جبير رجل من فقهاء مكة من التابعين، قتله الحجاج لخروجه عليه. فدعا عليه ابن جبير قبل موته، فضلاً عن آلاف الدعوات واللعنات التي استنزلها عليه كل من أحرقتهم نار طغيانه.

شكل جديد من الفساد

كان الحجاج يُمثل "حالة" فريدة من نوعها؛ لأنه كان يجمع التناقضات في القول والفعل. وهذا هو نوع الفساد الذي كان يمثله. فتلازم ما به من عنف ودموية وجرأة على المحرمات مع ما كان يظهر منه مِن عفة يد عن مال الدولة وخشوع صادق في الصلاة وبكاء عند زيارة القبور وذكر الموت وأمر الآخرة، ومسارعته لإرسال المجاهدين للفتوحات في الهند والصين، يجعل المرء يحار في أمره، ويفتن ضعاف العقول والتفكير فيحسبونه على حق فيما يفعل ويبررون جرائمه بأنها من ضرورات السياسة وحفظ أمن الدولة. الأمر الذي يعني أن ضرر فكر الحجاج ومنهجه في السياسة لم يقف عند حد "الواقعة التاريخية الشاذة"، بل إنه يتجاوز ذلك ليُصبح "مدرسة في السياسة وصاحب منهج في الحكم"، يبرر بعد ذلك للكثيرين أن يخوضوا في أعتى أنواع الطغيان والقمع بجرأة ظنًا منهم أن الحجاج ممن يُقتَدَى به في تلك الأمور.

كان الحجاج يَعتبر أن ما يفعله يقع تحت بند "الواجب" الذي لا يتم حفظ أمن البلاد إلا به. ففي ذلك الوقت كانت حركات التمرد التي قادها الخوارج على أشدها، وكانت الحركات الاستقلالية من بعض قادة الجيش الأموي في أوجها، وكان ابن الزبير يُسيطر على جزء كبير من الدولة الإسلامية. فكان الحجاج يرى أن تلك الظروف تقع تحت وصف "الطوارئ والضرورات التي تبيح المحظورات"، فكان ينفّذ سياسته الدموية لا بشكل عشوائي انفعالي بل بصورة منهجية منظمة، أي أنه -بمعنى أدق- كان يعرف جيدًا ما الذي يفعله وكيف يفعله ولماذا يفعله!!.. منفذًا سياسة معدة مسبقًا في ذهنه، ورؤية صاغها بعناية وهو يعتبر نفسه مجتهدًا إذا أصاب له أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد!

هذا هو شكل الفساد الذي يُمثله الحجاج، فهو ممن يصفهم علم الإجرام بأنهم "مجرمون أصحاب عقيدة"، وهم أخطر أنواع المجرمين، فهم يرتكبون جرائمهم وهم يؤمنون داخليًا أنهم على حق. والأخطر حين يصل أمثال هؤلاء للمناصب الأمنية أو السيادية، فعندئذ يُصبح الفارق الوحيد بينهم وبين المجرم في الصورة التقليدية له هو أنهم يحملون صفة رسمية بينما هو لا يحمل.

هكذا كان الحجاج... وللأسف فإنه لم يكن الحجاج هو الأول أو الأخير.. فمن بعده أتى آلاف مثله... فهو كما قلت ليس مجرد شخص.. بل هو مدرسة....
الكاتب: وليد فكري

مصادر المعلومات:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- علم الإجرام والعقاب: د.رمسيس بهنام.
3- ما وراء التعذيب: بسمة عبد العزيز.
4- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان.
5- الحجاج بن يوسف الثقفي في الميزان: محمد ناصح مؤيد العظم.
6- موسوعة عظماء حول الرسول: خالد عبد الرحمن العك.
7- موسوعة تاريخ العرب: عبدعون الروضان.
8- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي.
9- رجال حول الرسول: خالد محمد خالد.
10- الجريمة: محمد أبو زهرة.
11- الأحكام السلطانية: الإمام أبو الحسن الماوردي.
12- النظام السياسي للدولة الإسلامية: د.محمد سليم العوا.
13- خلفاء الرسول: خالد محمد خالد.
14- عمر بن عبد العزيز: عبد الرحمن الشرقاوي.
15- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس.
16- الطغاة والبغاة: د.جمال بدوي.
17- أبناء أبي بكر الصديق: عبد الحميد جودة السحار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق