المُفسِدون في الأرض (1)

المُفسِدون في الأرض (1)
لا تسمح لـ "بروتاجوراس" بإقناعك بكلامه الفارغ!

إذا كان أول فساد في الأرض هو قتل قابيل لأخيه هابيل؛ فالفساد الحقيقي بدأ من نشأة "الفكر" الذي سمح لقابيل أن يستبيح دم أخيه. نعم؛ فلا أكثر فسادًا في الأرض من فكر فاسد يقلب الظلم عدلاً والباطل حقًا والشر خيرًا..
عن المفسدين في الأرض.. عن كل من أفسد عقلاً ونشر فكرًا مختلاً.. نتحدث..
ولأن اليونان كانت قديمًا رائدة للفكر الحر, ومُصَدِّرة للأفكار الفلسفية -البنّاء منها والهدام- فلتكن البداية منها.


السفسطائيون

كلمة "سُفسطائي" كانت تعني -آنذاك- "المعلم"، وكانت تطلق على طائفة من المعلمين الجوالين المنتشرين في مدن اليونان قبل الميلاد بأربعمائة عام تقريبًا؛ حيث كانوا يمارسون عملهم لقاء أجر مادي.

وكانت مجالات تعليمهم متنوعة وفي ذلك الوقت كانت المدن اليونانية -بالذات أثينا- تشهد ثورة فكرية عارمة على الأفكار التقليدية المتوارثة، وعلى كل ما هو ثابت وراسخ في ضمير اليونانيين.

مشكلة تلك الدعوة أن ظاهرها جذاب؛ بينما هي في الحقيقة تهدد بدمار المجتمع؛ فهدم كل ما بُنيَ عليه -بلا استثناء- يعني هدم أسسه وإقامة حاجز بين ماضيه ومستقبله؛ بالإضافة لصعوبة اتفاق الثائرين على مبادئ واحدة يبنون عليها المجتمع الجديد؛ مما يعني أن تلك الحركة بدلاً من أن تكون حركة تجديدية لما هو موجود، أصبحت حركة هدامة تعيد مجتمعها قرونًا إلى الوراء، إلى ما قبل اتفاق أفراده على القيم والأسس التي أقاموه عليها من البداية.

السُفسطائيون التقطوا تلك الثورة على الثوابت، وقرروا إذكاءها وركوب موجتها؛ فأنشأوا فكرهم الفلسفي الذي اشتهروا به على مر التاريخ. وظهر بينهم الرواد في هذا الفكر وأشهرهم "بروتاجوراس" و"جورجياس" و"بروديكوس" و"هبياس", وأخذوا على عاتقهم مهمة تعليم الشباب طرق الوصول لتحقيق أعلى المكاسب السياسية والوصول لأرفع المناصب من خلال تعليمهم طرق اللعب بالألفاظ وكسب المساجلات الحوارية من خلال البراعة في البلاغة والقدرة على قلب الحقائق باستخدام المهارات اللغوية؛ بحيث يكسب تلميذهم النقاش لا لقوة حجته وعدالة قضيته؛ بل فقط لقدرته على استخدام اللغة وتصويراتها البلاغية وفصاحته بها في إقناع الآخرين بما يقول.
وكان هذا أمرًا مفيدًا -من الناحية النفعية البحتة- في ظل النظام الديمقراطي الثوري الناشئ الذي اختلت فيه مقاييس الصواب والخطأ ومعايير صلاحية هذا الفرد أو ذاك لهذا المنصب أو ذاك.

الفكر

كان فكر السُفسطائيون ببساطة يقوم على أن الإنسان هو مقياس كل شيء. فبعد أن كان الناس يؤمنون أنهم يعرفون الأشياء من خلال الحواس التي تراها أو تسمعها أو تشمها أو تلمسها, والعقل الذي يترجم ما تتلقاه الحواس إلى إدراك لها ولطبيعتها, قال السفسطائيون بأن الإنسان هو الذي يحدد ماهية الشيء فضلاً عن وجوده من الأساس؛ فأنت إن رأيت شيئًا فهو موجود؛ حتى وإن لم يرَه غيرك، وإن لم ترَه فهو غير موجود حتى لو أجمع العالم كله على رؤيته، ولم يجعلوا تلك الفكرة منطبقة على الماديات فقط، بل عمموها وجعلوها تشمل -في الأساس- المعنويات من حق وباطل وعدل وظلم؛ فجعلوا الإنسان مقياسا لهذه الأشياء؛ فمن يرى في أمر ما عدلاً فليفعله؛ حتى وإن رآه آخرون ظلمًا، وإن رأى لنفسه حقًا في فعلٍ ما، فهو الحق؛ حتى وإن قال غيره إنه باطل طالما أن لديه قوة فرض هذا "الحق". وعلموا تلاميذهم أن يجيدوا الدفاع عن الشيء ونقيضه بنفس الحماس؛ بحيث يكسبون القضية على أساس التلاعب بالكلمات بشكل يربك خصمهم ويقنع الحكم بأن ما يقال هو الحق المطلق ولو كان باطلا، حتى أن أحد أساتذتهم وهو جورجياس قال: "ليس من الضروري أن تعلم شيئًا عن موضوع النقاش لتجيب عن السؤال المطروح عليك؛ بل يمكنك كسب المحاورة من خلال بلاغتك وفصاحتك"، مما يعكس طريقة تفكيرهم.

السقوط

الفكر السُفسطائي أدى لموجة عاتية من اختلال المعايير في المجتمع اليوناني القديم مما أثار خوف العقلاء والمحافظين من اليونانيين -بالذات الأثينيين- فثاروا على السُفسطائيين وطاردوهم في كل مكان وأحرقوا كتبهم، بالذات رائد المدرسة السُفسطايئة "بروتاجوراس" الذي شكك في آخر كتبه في وجود الآلهة؛ فخرج عليه أهل أثينا وأحرقوا كتبه، مما دفعه للفرار منهم إلى صقلية، ولكن المركب الذي استقله جرفته عاصفة قوية وحطمته، فغرق..

مأساة سُقراط

بعد هزيمة السُفسطائية، حاول سقراط أن يصلح ما أفسده ذلك التيار المدمّر، فكانت فلسفته تعتمد على المحاورات وطرح الأسئلة على مدعي الحكمة واحدًا تلو الآخر حتى يصل المدعي لمرحلة العجز عن الإجابة؛ فإما أن يعترف بجهله ويطلب العلم من جديد، أو أن يُفضَح عناده وادعاؤه ويعلم الناس حقيقته.

طريقته وأفكاره

كانت طريقته تعتمد على إعلانه أنه جاهل يطلب العلم والحكمة من الحكماء، ويذهب للرجل المعروف بالحكمة ويطلب منه أن يناقشه في تلك المسألة أو تلك ليستفيد -سقراط- من حكمة محدثه وعلمه الغزير. فيقع الرجل في الفخ ويبدأ في الحديث، وكلما قال شيئًا أثنى سقراط على حكمته وطرح سؤالاً قويًا عن هذا الشيء، وهكذا حتى يتعب الرجل ويعترف بجهله.
وكان سقراط يرفض أن يوصف بالحكيم، فيقول عن نفسه -عن اقتناع- إنه جاهل ينشد العلم وإنه مجرد محب للحكمة يبحث عنها، إيمانًا منه أن هذه هي الطريقة الوحيدة لنيل العلم الحقيقي والحكمة العالية.
ولكن سقراط بدأ في التطرق بكلامه للسياسة.. فأثار عليه حفيظة أعدائه واكتسب منهم المئات!

أعداء سقراط

فقد قام سقراط بمهاجمة فكرة الديمقراطية؛ حيث استنكر أن يصل الزراع والصناع للحكم وهم غير متخصصين في السياسة ولا عاملين بها ولا خبرة لهم بشئونها، وهاجم كذلك الحكم الأرستقراطي حيث استنكر احتكار فئة بعينها للحكم. مما أثار ضده عداوة أنصار الاتجاهين، بالذات الديمقراطيون الذين ما إن انتصروا في صراعهم ضد النظام الأرستقراطي حتى قرروا الانتقام من سقراط.
الديمقراطيون تحالفوا ضده مع من فضح جهلهم من مدعي العلم والحكمة، وكذلك مع المحافظين المتشددين الذين خشوا أن يكون سقراط داعيًا سُفسطائيًا جديدًا، وقرر المتحالفون تقديمه للمحاكمة بثلاث تهم: إنكار الآلهة - الدعوة لآلهة جديدة - وإفساد عقول الشباب.

المحاكمة والنهاية

جرت المحاكمة بعد أن مثّل الادعاء عليه ثلاثة من أعدائه هم "ميليتوس" و"لايكون" و"أنيتوس"، وكان هذا الأخير من زعماء الديمقراطيين الراغبين في التخلص من سقراط. وبدلا من أن يطلب سقراط الرحمة من القضاة، قدم حججه بقوة وأشار إلى أن موقف قضاته مشين حين يحاكمون رجلاً يريد إصلاح مجتمعه، فغضب القضاة وحكموا بإدانته، وقضوا بإعدامه بالسُم بناء على طلب المدعين ضده.

تم حبس سقراط تمهيدًا لإعدامه، وعرض عليه أتباعه تهريبه خارج السجن والبلاد كلها، وكان هذا آنذاك شديد السهولة؛ نظرًا لانتشار الفساد وسهولة رشوة الحراس.

ولكن سقراط الذي كان ينادي باحترام القوانين رفض أن يخالف مبدأه إنقاذاً لحياته، وخضع للحكم الذي نُفِّذَ فيه بعد ثلاثين يومًا من محاكمته.

وللأسف.. فإن الإنسان يصرّ على تبني أخطاء أسلافه. فمذهب السُفسطائيين "السفسطة" ما زال الغالب على أسلوب البعض في تفاعلهم مع المشكلات والمناقشات, فيُلبسون الحق رداء الباطل، ويلونون الباطل بألوان الحق, مما يجعل المرء يحار فيهما فيفقد المجتمع معاييره للصواب والخطأ.

ومأساة سقراط مازالت تتكرر إلى يومنا هذا؛ فكم من مُصلح حاربه قومه؛ فقط لأنه جاء بجديد, دون أن يفكّروا فيما إذا كان ذلك الجديد لصالحهم أم لغير ذلك, معتقدين أنهم إنما يحمون مجتمعهم من التيارات المدمرة للتقاليد التي تحولت لديهم إلى أوثان هم عليها عاكفون..

إن عالم اليوم هو التلميذ الذي تعلم جرائم الماضي -أستاذه- فتفوق عليه..
الكاتب: وليد فكري

مصادر المعلومات:
1- فلاسفة أيقظوا العالم: د.مصطفى النشار.
2- قصة الفلسفة اليونانية: د.زكي نجيب محمود - د.أحمد أمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق