المُفسِدون في الأرض (4)

المفسدون في الأرض (4)
فتنة المسلمين الكبرى
فتنة سوداء عاصفة, تلك التي اجتاحت المسلمين بعد اغتيال عمر بن الخطاب وتولي عثمان بن عفان -رضي الله عنهما-الخلافة. فتنة دامية حمل فيها المسلم السلاح في وجه أخيه, بعد أن كانت الأسلحة لا تُرفَع إلا على الفُرس والروم وأعداء الإسلام. فتنة أيضًا في الدين.. جعلت فيه ما ليس فيه من تأليه لبشر ودمج للأفكار الوثنية في صلب العقيدة!فتنة.. أجمع الكل أنها نتيجة مؤامرة من هؤلاء الأعداء سالفي الذكر, وإن لم يتفقوا على مدبر واضح لها إلا أن اسمًا واحدًا تردد بشدة تحت أصابع الاتهام, اسم "عبد الله بن سبأ"!

توفي عمر وجاء عثمان, فارق كبير بين الأول والآخر, وأمر طبيعي أن تكون لكل منهما سياسته ورؤيته في الإدارة والحكم. وسياسة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان لها كثير من المعارضين, وهم بين غير مقتنع ببعض مظاهر تلك السياسة, كعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري -رضي الله عنهما- أو من يرون أن الإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- أولى بولاية أمر المسلمين, كسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص "رضي الله عنهما". ولكن تلك المعارضة لم تخرج عن حدود الاختلاف الطبيعي في الرأي بين رفاق رحلة الكفاح الطويلة لرفع كلمة الإسلام, ولم تصل لمرحلة "رفض ولاية عثمان" أو الدعوة للخروج عليه. كانت معارضة عاقلة تفاعل معها أمير المؤمنين عثمان بن عفان بحكمة ورُقي, كما يجب للمعارضة أن تكون, وكما يجب للحاكم أن يفعل.ولكن تلك الصورة الجميلة تلوثت بدم عثمان بن عفان الذي قتله بعض الغوغاء الذين تمردوا عليه وانتهكوا حرمة المدينة المنورة -عاصمة الدولة- فدخلوها بسلاحهم وحاصروه ومنعوا عنه الماء واقتحموا داره وسفكوا دمه وأدخلوا على الدولة الإسلامية سُنة الجرأة على قتل الخلفاء!تلك الجريمة تمت بتنظيم وتنسيق كبير, لعب فيه "عبد الله بن سبأ" دورًا رئيسيًا.

عبد الله بن سبأ وجرائمه

وعبد الله بن سبأ يهودي يمني من أم حبشية, ولهذا كان يقال له "ابن السوداء", ادعى اعتناق الإسلام ليتمكن من الكيد له على المستويين الأمني والعقائدي. من حيث تآمره على أمن الدولة الإسلامية, قام ابن سبأ بجولة في مدينتي الكوفة والبصرة (في العراق), وجولة مماثلة في مصر, لحشد المتعاونين معه من المتمردين على حكم عثمان بن عفان, وإقناعهم بضرورة تصعيد المعارضة لنقطة الثورة المسلحة ضده. مسعى ابن سبأ كان عسير التحقق لولا وجود أرض خصبة له.

فابن سبأ أجاد اختيار من وجّه لهم خطابه الخطير, فقد وجهه إما للناقمين على قريش تسيّدها للدولة الإسلامية, أو للرافضين لبعض ما استحدث عثمان بن عفان من سياسات وقرارات إدارية, أو لمن يحملون ضغائن شخصية تجاه الخليفة, بالإضافة لأن كل هؤلاء كانت النسبة الأعلى منهم ممن ليست لهم صحبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- فكانت هيبة الصحابة عندهم أقل من غيرهم, وإلا ما كانوا ليفكروا مجرد التفكير في رفع السلاح في وجه صاحب رسول الله وصهره وخليفة المسلمين!

كان أكثر عنصر استغله ابن سبأ ومن تعاونوا معه في تلك المؤامرة الكبرى, ذلك الخلاف الكبير في الآراء بين بعض كبار الصحابة وعثمان بن عفان -رضي الله عنهم جميعًا- فعلي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- كان يُعارض اعتماد عثمان شبه الكامل على أقاربه في ولايات الدولة, وعمرو بن العاص -رضي الله عنه-كان يعارض سياساته في إدارة مصر, وأبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- كان يرفض انتشار الترف ومظاهر الثراء العريض بين الصحابة, وغيرهم كثير اختلفوا مع الخليفة, لكن ما لم يفهمه الكثيرون ممن خرجوا مع ابن سبأ, هو أن تلك الخلافات لم تخرج عن نطاق اختلاف الرؤى ولم تكن تعني أنهم يدعون للثورة عليه أو خلعه أو قلته, مهما بلغت حدة الخلاف, وأنه من الطبيعي جدًا أن يختلف رفاق الكفاح فيما بينهم, بل هو أمر صحي وفيه سعة للمؤمنين طالما أن الخلاف بقي في نطاق الأمور المرنة التي تختلف باختلاف رؤية صاحبها.

ابن سبأ قام بعملية تكثيف لذلك الخلاف وجعل المتمردين يرونه في شكل دعوة صريحة من الصحابة المذكورين, ومن وافقهم الرأي, للخروج على الخليفة بخلعه أو قتله, بل وظهرت رسائل مزورة تحمل توقيعات كبار الصحابة وزوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام- تدعو الناس لخلع عثمان وتعلن إهدار دمه! تلك الرسائل تزامنت مع جولات عبد الله بن سبأ في البلاد واستعداد من لاقاهم للخروج والتوجّه للمدينة لفرض رؤيتهم بقوة السلاح! أكبر دليل على زور تلك الرسائل وكذبها هو أن الصحابة الواردة أسماؤهم بها كانوا أقوى الناس دفاعًا عن حياة الخليفة عندما حوصِرَ في بيته, وكانوا كذلك أشرس المطالبين بالقصاص له بعدما قُتِل.

أما الجريمة التي ارتكبها ابن سبأ في حق العقيدة ذاتها فكانت الأكبر بحق! فقد بدأ يتسلل لأوساط المتعصبين للإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- ويدس بينهم أفكارًا فيها تحريف للعقيدة, كانت هي بداية نشأة المذهب الشيعي في بلاد الإسلام.

فأولاً جاء ابن سبأ بفكرة "رجوع النبي", فقال: "عجبت لمن يقولون بعودة عيسى بن مريم ولا يقولون بعودة محمد", وقال إن تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] هو أن الرسول -عليه الصلاة والسلام-سيُبعث مجددًا ويعود ليعيش ويحكم بين المؤمنين! كما اختلق فكرة "الوصاية" وهي بقوله إن لكل نبيّ وصيّا, أي لكل نبي رجل يخلفه في قومه, وقال إن عليا وصيّ محمد.

لم يتوقف ابن سبأ عند اختلاق تلك الفكرتين اللتين لاقتا قبولاً من المتعصبين للإمام علي, دون أن يكونوا على علم سليم بالدين, بل تمادى وقال بحلول روح الله تعالى في علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- مما يعني ألوهيته! مقحمًا بذلك بعض مكونات الديانة الفارسية القديمة التي كان لها وجود قديم في مسقط رأسه اليمن -آنذاك- من حلول روح الإله في البشر, وأفكار تناسخ الأرواح, إلى آخر تلك الأفكار الوثنية التي سعى ابن سبأ لجعلها تتسلل للعقيدة الإسلامية.

مأساة عثمان

دعوة ابن سبأ لاقت رواجًا في المدن التي جال فيها, فخرج المتمردون منها وهم يُظهِرون رغبتهم زيارة البيت الحرام ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم فاجأوا الجميع بدخولهم المدينة وإثارتهم الفوضى ومجاهرتهم بالخروج على الخليفة, وكادت تحدث مجزرة مسلّحة بينهم وبين أهل المدينة والموالين لعثمان بن عفان, لولا تدخل علي بن أبي طالب ووساطته بينهم وبين أمير المؤمنين وسعيه لوصول أطراف الخلاف إلى حل وسط. وبالفعل نجح في ذلك حيث تحاور الطرفان -الخليفة والثوار- ووصلوا إلى اتفاق يرضاه الجميع حول نقاط الخلاف المثارة, مثل اعتراضهم على بعض الولاة, ومطالبهم بشأن بعض السياسات المالية للدولة... إلخ.. وأخيرًا خرجوا من المدينة وتوجهوا إلى بلادهم.

ولكن للأسف, ما كاد الصحابة يتنفسون الصعداء لانتهاء الأزمة, حتى فوجئوا بالمتمردين يعودون للمدينة ويرفعون السلاح في وجه أهلها ويحاصرون بيت عثمان بن عفان معلنين إهدارهم دمه! كان السبب المعلن أن هؤلاء الناس قد وقع في أيديهم رسول من الخليفة لولاة البلدان التي أتوا منها, برسائل يأمرهم فيها بقتل هؤلاء المتمردين فور وصولهم لبلدانهم, فعدوا ذلك غدرًا يخرق الاتفاق المبرم ويجعلهم في حِل من الالتزام به.

حتى الآن غير مثبت إن كانت تلك العودة مدبرة مسبقًا, مما يعني أن الاتفاق المعقود توًا كان مجرد مناورة, أو أنها كانت ارتجالية, خاصة أن الثوار قد أمسكوا بالفعل بغلام لعثمان -رضي الله عنه- معه رسالة مزورة باسمه فيها ما قالوا. ولكن المثبت والأكيد أن تلك الرسالة قد كُتِبَت بغير علم الخليفة, مما يعني أن أصابع المتآمرين قد بلغت درجة مخيفة من التسلل إلى حَد إرسال غلام الخليفة على أحد جِماله برسالة خطيرة كهذه! ومرة أخرى تشير الأصابع لعبد الله بن سبأ والمتعاونين معه في مؤامرته تلك.

والمُلاحَظ أن دور ابن سبأ في الأحداث لم يظهر إلا بعد ذلك, فطوال تلك الفتنة القوية لم يرد اسم ابن سبأ أو يظهر وجهه في الصورة للصحابة, بل كان يتحرك بدهاء شديد من وراء ستار معتم. كما أن تركيز الصحابة آنذاك لم يكن على كشف مصدر القلاقل بقدر ما كان منصبًا على إيقاف العجلة المتسارعة للفتنة المهددة بتدمير الدولة الإسلامية الناهضة توًا!

وللأسف.. نجح المتآمرون في تلك المرحلة من خطتهم, وقُتِلَ أمير المؤمنين عثمان بن عفان في منزله بعد أن تسلل بعض الخارجين عليه من السور وضربوه بالسيوف وهو صائم يقرأ القرآن.

ظهور الشيعة

المرحلة التالية لخطة ابن سبأ في ضرب الإسلام تمثلت في الفرقة التي أسسها وهم "السبئية", وهي أول فرقة منشقة عن الإسلام السليم تظهر, وكانت أفكارها منصبة على الطعن في الشيوخ أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- والتعصب للإمام علي -كرم الله وجهه- إلى حَد تكفير من لا ينادي بإمامته وأحقيته بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. ثم بلغوا حد ادّعاء ألوهية الإمام علي, وعودة الموتى للحياة مرة أخرى قبل يوم القيامة, ورجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحياة مرة أخرى.

وعندما تولى الإمام علي الخلافة, جاهر السبئيون بدعوتهم, مما جعله يتصدّى لهم بقوة, ويأمر بإحراق بعضهم عقابًا لهم على ما أحدثوا في العقيدة, والمثير أن من حُكِمَ عليهم بذلك كانوا -أثناء احتراقهم- يشيرون للإمام ويقولون له أنهم تأكدوا أنه هو الله؛ لأن الله وحده من يحرق بالنار!

هذا كان مصير أتباع الدعوة الدينية لابن سبأ, أما عنه هو فقد نفاه الإمام إلى المدائن, والبعض يقولون إنه لم يُنفَ بل قُتِل. ثمة اختلاف على تلك النقطة, ولكن المتفق عليه أن عبد الله بن سبأ قد اختفى تمامًا بعد معاقبة الإمام للسبئية, وإن لم يختفِ مذهبه الذي أخذ يتسلل ويستفحل, ويتبناه بعض المغالين في التعصب للإمام علي -كرم الله وجهه- حتى ظهرت فرق الشيعة العصية على الحصر!
والمثير -كذلك- أن أئمة الشيعة -بالذات الاثنا عشرية- يُنكِرون وجود شخصية عبد الله بن سبأ من الأساس, ويقولون إنها شخصية أسطورية اختلقها السنيون ليطعنوا في المذهب الشيعي.

الخلاصة

السؤال الآن: من كان وراء ابن سبأ؟ إن أصابع الاتهام تشير لجهات عدة, فالأصل اليهودي لابن سبأ يشير لاحتمال وجود دور لليهود في تلك اللعبة, خاصة مع قرب عهدهم بالهزائم المتكررة على يد المسلمين خلال فترة الصراع الإسلامي اليهودي في المدينة وخيبر. والبعض يشير إلى دور الفُرس في الأمر, خاصة أنه بدأ بعد جريمة اغتيال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيد رجل فارسي هو أبو لؤلؤة, وكذلك لوجود عناصر فارسية في اليمن -موطن ابن سبأ- ولوجود آثار من ديانة الفُرس في الأفكار الدينية للسبئية. ولم تبعد أصابع الاتهام عن الروم الذين كانوا قد تلقوا توًا أعتى الهزائم على يد الجيوش الإسلامية, وكانوا -بالتزامن مع الفتنة- يحاولون احتلال مصر مجددًا.

من المؤكد أن عدد المستفيدين من تلك الفتنة الكبرى كان كبيرًا! ومن المؤكد كذلك أنها كانت مخططة ببراعة ومنفذة بدقة تشي بأن الأمر أكبر من مجرد تخطيط لرجل واحد, وأنه أمر دُبّرَ مسبقًا بدهاء كبير وسرية شديدة.

ومما يشي بحجم تلك المؤامرة, أن الأمة ما زالت تعيش ذيولها إلى الآن, فما فعله ابن سبأ بالعقيدة نرى نتيجته الآن في ذلك الصراع السني الشيعي المرير الذي عانى منه المسلمون والعرب على مر تاريخهم, وما زالوا يقاسونه في وقت تتهددهم فيه الأخطار من كل جانب. وكذلك نرى آثاره في أن منذ مقتل عثمان رُفِعَت من بيننا -عربًا ومسلمين- رهبة حرمة الدم, فتجد العربي يجترئ على قتل أخيه والمسلم يتساهل مع حرمة دم المسلم، كأنما كان مقتل عثمان إشارة البداية للمسلمين أن يكونوا أكثر "شجاعة" في انتهاك حرمات دمائهم التي حرمها الله تعالى إلا بالحق! ولأن الحاضر ما هو إلا صورة متطورة من الماضي, فإن ما بتنا فيه ليلة مقتل عثمان.. نصحو فيه اليوم.. وإلى ما شاء الله.
الكاتب: وليد فكري
المصادر:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان.
3- علي إمام المتقين: عبد الرحمن الشرقاوي.
4- موسوعة عظماء حول الرسول: خالد عبد الرحمن العك.
5- تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة.
6- الفرق والجماعات الدينية: د.سعيد مراد.
7- رجال حول الرسول: خالد محمد خالد.
8- اليد الخفية: د.عبد الوهاب المسيري.
9- تاريخ الخلفاء الراشدين: د.محمد سهيل طقوش.
10- لله ثم للتاريخ: حسين موسوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق