المُفسِدون في الأرض (3)

المفسدون في الأرض (3)
عندما كان العرب يعبدون عزيزة!!
جزيرة العرب تلك الأرض المباركة التي شرّفها الله بأن جعل فيها كعبته المشرّفة، داهمتها الوثنية بمئات من الأصنام والأوثان والمعبودات من دون الله "عزّ وجلّ" أو بالإشراك معه في وضع يُؤلم كل ذي عقل وفكر.
ومكة.. تلك البلدة المكرّمة، صارت علامة للشرك والوثنية بعد أن كانت الحصن الأخير للتوحيد..فمن السبب؟عندما أسّسَت مكة، كان سكانها هم هاجر وإسماعيل وأبناؤه -عليهم الصلاة والسلام- وقبيلتي "جُرهُم" و"قُطَوراء".

حدث تزاوج وتمازج بين كل هؤلاء مما أنتج المجتمع المكي الأول في صورته القديمة. ولأن مكة -آنذاك- كانت صغيرة المساحة قليلة الموارد، فقد وجدت القبيلة أن على بعض أبنائها الهجرة من البلدة المباركة التي ضاقت على أهلها، والسعي في الأرض وإقامة مجتمعات جديدة.

كانت تلك أولى الهجرات الكبرى من مكة لأطراف جزيرة العرب، وخرج المهاجرون وقد حملوا معهم حجارة من الكعبة تذكارًا لوطنهم الأم وبيتهم المعظم، وانطلقوا إلى الأرض العربية الواسعة حيث أقاموا قبائل كبيرة وأسس بعضهم ممالك ودويلات، وتناسلوا في مهجرهم وأتوا بأجيال جديدة لا تعرف عن مكة سوى أنها أرض الأجداد.

تلك الأجيال سرعان ما انتشر فيها البُعد عن التديّن والطابع الأصيل للحياة العربية، فرأى المشايخ وأصحاب الرأي الذين شهدوا تلك الهجرة الأولى لقبائلهم الناشئة أن يُخرِجوا لأبنائهم الحجارة التي انتزعوها من الكعبة؛ ليذكروهم بأصلهم النبيل، فأخرجوها ووضعوها في أماكن معظمة، وأخذوا يطوفون بها. ولكن كما يقال فإن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة!

فقد كان ذلك الطواف على سبيل التعظيم لا أكثر، ولكن مَن قرروه نسوا أن الكعبة تُطاف لا لقدسية أحجارها بل لقدسية موقعها. كانت تلك ثغرة عميقة في محاولة إحياء التدين التي قام بها شيوخ قبائل العرب الأولى، لذا فسرعان ما أتت أجيال توهمت أن تلك الحجارة إنما تُعبَد لذاتها، فبدأت أول عبادة لحجر في الجزيرة العربية..

البذرة الأولى

ولكن قبل أن نركن لذلك التفسير المبدئي لدخول الوثنية لجزيرة العرب فيما بعد رسالة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- علينا أن نضع أيدينا على البذرة الأولى لذلك الانحراف الصارخ عن دين الله.

فقد كانت المنافسة على أشدها في مكة بين قبيلة جُرهُم بقيادة مضاض بن عمرو، وقبيلة قطوراء بقيادة السميدع، كلاهما تسعى للسيطرة على الزعامة السياسية والتجارية للمدينة، بل والدينية أيضًا، فسعت جُرهُم لاصطناع أصل لنفسها بأن نسبت نفسها لجد أكبر اخترعته وزعمت أنه كان أحد ملائكة السماء ثم أذنب فنزل منها في هيئة البشر وأتوا هم مِن نسله.

وصاروا يتفاخرون على أهل مكة وهم يطوفون الحرم قائلين: "لاهُما (اللهم) إن جُرهُمًا عِبادُكا .. القوم طَرفٌ وهمُ قِلادُكا".

فلما تصدت قطوراء لذلك البغي العظيم حاربتها جرهم ودارت بينهما معركة ضارية انهزمت فيها قطوراء وقُتِلَ زعيمها السميدع واستمرت جرهم على بغيها، حتى جاءها يومٌ طُرِدَت فيه من مكة بالقوة بعد أن ضج أهل البلد الحرام بذلك العدوان على مقدسات الله.
ولكن للأسف لم يمنع هذا انتشار العبث بالمقدسات وتحويل دين التوحيد إلى وثنية مطلقة، بل أجّله فقط.. فإن كان ذلك التحول قد تأخر في مكة، فقد كان سريعًا للغاية فيما سواها من بقاع جزيرة العرب.

استيراد الآلهة

موقع الجزيرة فرض على العربي القيام بدور كبير في حركة التجارة الدولية، فكانت قوافله تذرع طرق الشام واليمن ومصر وفينيقيا والعراق، وكانت تعود محملة لا بالأموال والبضائع فحسب، بل بالثقافات المختلفة وبالذات الدينية.

فقد أخذ العرب عن المصريين تقديس أرواح الأسلاف، وهذا عن طريق تقديس الصالحين من المتوفّين والتوسل بهم في الدعاء، والذي تحول تدريجيًا إلى عبادة لهؤلاء الأشخاص أنفسهم. كذلك أخذوها عن أسلافهم القدامى الذين عبدوا "ودا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا". وأخذوا تقديس النجوم والاعتقاد في تأثيرها على مجريات الأحداث، عن البابليين.

أما عن الآلهة نفسها، فمعظمها مأخوذ -كذلك- عن حضارات أخرى، ولكن تم تغيير اسمه وبعض صفاته ليتلاءم مع الطبيعة العربية. فـ"مناة" هي في الأصل الآلهة البابلية "مامنتو", وكانت -على الأرجح- آلهة للقدر والموت، و"العُزى" هي -في أقوال- "أفروديت"، وفي أقوال أخرى "إيزيس"، وكان اسمها أولا "العزيزة" ولكن العرب كانوا يميلون للتفخيم فسموها "العُزى" أي "الأكثر عِزة"، و"هُبَل" إله الشِعر وأعظم آلهة قريش تقديسًا، هو في الأصل "أبوللو" إله الشعر اللاتيني وهكذا..

وكان سادات العرب يعودون من أسفارهم بتماثيل يأمرون قومهم بعبادتها, أو يبتكرون آلهة جديدة، وينسجون حولها الأساطير، فيجعلون بعضها بنات الله، كمناة والعُزى، أو يجعلون أحدها زوجته، كاللات، ويقولون أنهن يُعبَدن مع الله للتقرب إليه!

ولأن العربي بطبعه يميل للنمط القبلي في الحياة، وما يتبع ذلك من تبعية شبه مطلقة لسيد القبيلة، فقد كان من السهل على سادات القبائل تغيير عقائد قومهم خاصة مع ما للعربي مِن ميل للبحث في أصول ما يحيطه من أشياء، وكانت تلك الآلهة وما يرتبط بها من أساطير للخلق والتحكم بالظواهر والأحداث تمثل للعربي البدوي تفسيرات مباشرة لأسئلته. فكان الأمر بمثابة صفقة بين طرفين، الأول هو رجل القبيلة العادي الذي ينال غايته في معرفة أصول الأشياء، والآخر -وهو المستفيد الأكبر- هو سيد القبيلة الذي يكتسب من نشره عبادة الأصنام بين قومه مكانة دينية عالية، فضلاً عن المكاسب المادية الناتجة عن القرابين والنذور المقدمة للآلهة.

السادة

كل إله عُبِدَ من دون الله في جزيرة العرب كان وراءه سيد يريد من نشر عبادته تحقيق غرض ما.. فإساف ونائلة أول من وضعهما عند الحرم كان "قُصَي بن كلاب"، و"ظلام بن سعد" هو أول من وضع العُزّى للعبادة، ونجم "الشعرى" أول من قدّسه كان "وجرة بن غالب الخزاعي".. كلهم كانوا سادات لقومهم، إلا أن من تفوق عليهم في تلك اللعبة الدنيئة كان "عمرو بن لحي الخزاعي"، وهو أول من جعل الأصنام تُعبَد في مكة!

فعمرو بن لحي كان من قبيلة خزاعة التي كانت -آنذاك- تسيطر على مكة، وكان أثرى قومه وأكثرهم عزًا ومنعة وأعلاهم كلمة، وكان يحب من حين لآخر أن يوطد سطوته بأن يضع التشريعات لأهل مكة.

تلك التشريعات لم تكن لأمور حياتية جدية ذات فائدة، بل كانت فيما يتعلق بالإبل والأنعام، وكانت شديدة العبثية والسفه، فقد شرّع أن الناقة التي تولد بعد عشرة نوق إناث ليس بينهن ذكر تُسَمّى "السائبة" فلا يُركَب ظهرها ولا يُجَزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وإذا أنجبت أنثى سُمّيت المولودة بـ"البحيرة" وشُقّت أذنها وصار وضعها كما هو وضع أمها. والشاة لو أنجبت عشر إناث في خمس بطون ليس بينهن ذكر سُمِيَت "وصيلة" ويكون ما ولدت من حق ذكور أصحابها دون إناثهم إلا الميتة منها (وكانوا يأكلونها) فيشترك في أكلها الذكور والإناث. أما فحل الإبل إذا نتج له عشر إناث ليس بينهن ذكر صار ممنوعًا ركوب ظهره أو جز وبره وتُرِكَ يرعى ويجامع ولا يُنتَفَعُ به في غير ذلك وسُمِيَ "الحام"، وقد أنزل الله تعالى في ذلك:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].

تلك التشريعات العبثية فرضها عمرو بن لحي على أهل مكة، وانتشرت بعد ذلك بين العرب. ولكن هذا لم يكفِه، فقد سافر إلى الشام والعراق للتجارة، فوجد قومًا يعبدون صنمًا فسألهم عنه فقالوا: "هو صنمنا إذا انقطع المطر توسلنا إليه فنُمطَر، وإذا حاربنا دعوناه فننتصر" فأخذ صنمًا منهم ونصبه في قلب مكة وأمر أهلها بعبادته -وهو"هُبَل"- ثم يقال إنه بعد ذلك أعاد إحياء عبادة آلهة قوم نوح "وَد وسواع ويغوث ويعوق ونسر"، وكان أول من أمر بعبادة إساف ونائلة (اللذين نقلهما قُصي بعد ذلك إلى الحرم).

وهكذا صار أول من بدّل دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقلب مكة، وتبدلت تلبية الحجاج من: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" إلى: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما مَلَك". وقد أخبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- أنه رأى في معراجه إلى السماء عمرو بن لحي يجر أمعاءه في جهنم.

رجال الدين

ولأن لكل دين رجاله، فقد ظهرت الوظائف الدينية، كالسدنة، وهم خُدام الإله والواسطة بينه وبين العباد، وكانت مكانة السادن حسب مكانة إلهه، فكانت لسدنة الكعبة الصدارة، ثم سدنة الآلهة الكبرى كهبل واللات والعُزى، ثم سدنة باقي الآلهة.
كذلك ظهرت "الكهانة"، والكهنة هم رجال ونساء يدعون اتصال الأسباب بينهم وبين الآلهة والجن وسائر القوى الخارقة، فيتنبئون بالمستقبل والمجهول -بمعاونة الجن غالبًا- ويتحدثون بالسجع والرموز، ويحكمون فيما يجري بين العرب من نزاعات وما يغمض عليهم من أمور.

وجعلوا عند الأصنام "القِداح"، وهي جعبة بها سهمان مكتوب بأحدهما "افعل" والآخر "لا تفعل"، فإذا أراد المرء أن يقضي أمرًا استشار إلهه بضرب القداح، فإما أن يخرج سهم "افعل" أو أن يحجم عما أراد! وظهرت وظيفة "الناسئ" وهو رجل كانت وظيفته أن يحلل أحد الأشهر الحُرُم مقابل تحريم أحد الشهور الحلال، وهذا وفق ما تقتضي مصلحة قبيلته إذا أرادت قتالاً أو ثأرًا من قبيلة أخرى. فكان هذا من أشنع أنواع العبث بأشهر الله الحرم.

تلك الوظائف حرص سادة العرب على توطيد مكانتها حفاظًا منهم على مكانتهم السيادية بحكم إشرافهم عليها من حيث الإنفاق عليها وحماية عبادتها.

كذلك ظهرت بدعة جديدة بين العرب هي "الحمس"، وهم سكان مكة ومحيط الحرم من قريش وخزاعة، فقد كانوا يفرضون على أنفسهم طقوسًا غريبة أثناء موسم الحج كألا يمخضوا اللبن أو يصنعوا الزبد أو يغزلوا الوبر والشعر أو أن يستظلوا به، وفرضوا على الناس أن يطوفوا بالكعبة في ثياب خاصة صنعها الحمس، أو أن يطوفوا عرايا، فعلى حد قولهم: "لا يصح أن نطوف في ثياب قارفنا فيها الذنوب"، فكان أكثر الفقراء يطوفون بالكعبة -رجالاً ونساءً- عراة! وكان الرجل من الحمس إذا عاد لبيته أثناء الإحرام لم يدخله من بابه بل من ظهره! إلى آخر تلك السفاهات التي شرّعها سادات العرب ليذهبوا بالعقول ويصبحوا هم المتحكمين بها.

تلك البدع لم تمر دون محاولات من بعض العقلاء لمقاومتها، فقد رفض الكثيرون اعتناق تلك الخرافات وتمسكوا بدين إبراهيم. وكان من أبرز هؤلاء الذين اعتنقوا الحنيفية وسعوا للإصلاح "زيد بن عمرو بن نفيل" -أبو الصحابي سعيد بن زيد رضي الله عنهما- الذي أقسم ألا يسجد لصنم أو يأكل ما ذُبحَ تحت وثن أو يلبي بتلبية الشِرك، وحاول نشر مذهبه بين قومه فحاربوه واضطهدوه وطردوه من مكة فعاش شريدًا في الصحراء حتى تعرّض له بعض قطاع الطرق فقتلوه، فتنفس سادات مكة الصعداء ولكن إلى حين..

فمِمن عاصروا تجربة زيد بن عمرو بن نفيل، وتألموا لنبأ قتله، فتى من بني هاشم كان أصحاب الفراسة موقنين أن سيكون له شأن.. اسمه "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب"، وكان -صلى الله عليه وسلم- كلما تذكّر زيد بن عمرو بعد البعثة ترحم عليه وذكره بخير وعدّه من المؤمنين.

الخلاصة
تغيير دين إبراهيم -عليه السلام- كان جريمة مسلسلة توارثها زعماء العرب ليتمكنوا من خدمة أغراضهم الدنيوية في السيطرة على قومهم، فكان فسادًا منظمًا ضرب بجذوره في أرض الجزيرة، ولهذا فقد كانوا أول من حارب دعوة التوحيد عند ظهورها.

وللأسف.. فرغم انتشار دين الله، فإن الوثنية لم تذهب بكل أحمالها، بل بقيت لها آثار في الإيمان بالخرافات وتقديس قبور الأولياء واتخاذ المساجد عليها وانتشار أعمال الدجل والشعوذة والاعتقاد في قوى أخرى إلى جانب الله، تنفع وتضر.. ونظرة واحدة لما يجري عند أي مقام لأي من أولياء الله الصالحين -رضي الله عنهم- المدفونين في مصر، يجعلنا ندرك أن الوثنية لم ترحل بعد..

فالفساد العقلي إذا أراد أن يمتد للعقيدة.. فإنه يجد لنفسه ألف شكل يتنكر به.. وألف باب يدخل منه.. طالما بقي في الناس السفه والجهل..
الكاتب: وليد فكري

مصادر المعلومات:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- موسوعة تاريخ العرب: عبدعون الروضان.
3- تاريخ العرب القديم: د.توفيق برّو.
4- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلّو.
5- موسوعة أساطير العرب: د.محمد عجينة.
6- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان.
7- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار.
8- فجر الإسلام: أحمد أمين.
9- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق