المُفسِدون في الأرض (5)

المفسدون في الأرض (5)
الحجاج بن يوسف الثقفي نسيب إبليس!
عندما يكون الحديث عن نوع جديد من الفساد يتمثل في ممارسة أعتى أنواع القتل والتعذيب وضرب المقدسات باسم السلطة وحماية الدولة... عندما يُقنن العدوان على النفس التي حرّم الله المساس بها إلا بالحق ويتحوّل لأمر مُبرر وواجب لحفظ النظام... عندما يكون الخوف هو العلاقة الوحيدة بين الحاكم والمحكوم، وعندما نتحدّث عن الرجل الذي فعل كل هذا... فنحن -بالتأكيد- نتحدّث عن "الحجاج بن يوسف الثقفي".. رجل بني أمية القوي وسيفهم البتّار.

هو من أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للجدل. أقلية رأته مظلومًا متحاملاً عليه من قِبل المؤرخين، وأغلبية أجمعت على أنه أعتى الظالمين وأن عهده كان نكبة على دولة العرب والمسلمين وعلى الإنسانية كلها.. ولأن أعمال المرء هي التي تقيّمه، فإن كفة القائلين بالرأي الثاني هي التي ترجح.. إذ إنه -أي الحجاج- فعل من الفظائع ما لا يمكن تجاهله، ونحن إذ ننظر إليه نجد أنفسنا ننظر لشخصين مختلفين. فهو من جانب.. رجل صوّام قوّام مُصلي، خاشع في الصلاة دامع العين عند ذكر الله، مشجع على التفقه في الدين ودءوب على إرسال السرايا والجيوش للغزو في سبيل الله. ومن جانب آخر... سفاح سفاك للدماء جريء على الظلم والبطش يمكنه أن يذبح مئات الأبرياء دون أن يطرف له جفن! شخصية لا يحتاج عرضها إلى مؤرخ بقدر ما يحتاج إلى محلل نفسي لهذا الرجل الذي نشر نوعًا خطيرًا من الفساد الفكري يتمثل في مبدأ "كل شيء مباح لحماية الأمن والنظام، ولو كان الثمن أرواح الأبرياء وأمنهم ذاته"! ذلك المبدأ الذي استمر إلى يومنا هذا، ولكن بصور وأشكال مختلفة.

صعود الحجاج

كان الحجاج رجلاً من قبيلة ثقيف التي تعيش بالطائف يعمل كمعلم للأطفال، يعلمهم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. لكنه شعر أن الطائف تضيق عن طموحاته العريضة، وساهم في شعوره هذا سوء تصرف ولاة الطائف الذين عيّنهم عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- الذي كان قد أعلن نفسه خليفة على الحجاز والعراق.

هؤلاء الولاة كانوا يُسيئون معاملة أهل الطائف بشكل زرع في نفس الحجاج يقينًا أنه لن ينال حقه في الاحترام إلا إذا أصبح من ذوي السطوة والقوة، فهاجر إلى دمشق عاصمة خلفاء بني أمية الذين كانوا ينافسون ابن الزبير على السيادة على الحجاز وأرض العراق. وبالفعل سافر الحجاج وانضم لشرطة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان يشكو تراخي رجال شرطته وافتقادهم الضبط والربط، فاستغل الحجاج ذلك وأظهر لزملائه من البأس والالتزام ما زرع في قلوبهم هيبة منه ودفع رئيسهم "رَوح بن زنباع" إلى ترقيته وتقديمه للخليفة الذي استشعر مواهبه القيادية فجعله من قواد حربه ضد أعداء السلطة. وهكذا، أصبح الحجاج -وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره- أحد كِبار رجال الدولة الأموية.

جبروت الحجاج وجرائمه

أبدى الحجاج -من البداية- غلظة قلب شديدة في إدارته لما وُكّل إليه من مهام. فحين وُكلت إليه مهمة تجنيد أهل الشام في الجيش أعلن بشكل صريح أن على كل قادر على حمل السلاح الخروج مع الجيش وإلا قُتِل وحُرِقت داره. ولكي يُثبت جديته قام بقتل رجل لم يستطِع تنفيذ الأمر لمرضه بالفِتاق، بل وكان يبادر بقتل أي شخص يُبدي ولو تبرمًا بسيطًا من أمر يوجهه أو قول يُعلنه، بغض النظر عما إذا كان هذا الشخص شابًا أم شيخًا مريضًا أم رجلاً من العبّاد أو الفقهاء. وكان يقول -ويُقسم- إنه لو أمر الناس بالخروج من أحد أبواب المسجد فخرجوا من الآخر، لحلّت له دماؤهم وأموالهم!

بل ولم يكن يوقفه عند حده كون خصمه أحد الصحابة أو التابعين، فعلى سبيل المثال، كان الحجاج -خلال ولايته على الحجاز- يتعمّد الإساءة لأنس بن مالك -رضي الله عنه- ومضايقته واضطهاده كل حين هو من سواه من الفقهاء والصالحين. فقد كان يؤمن -كما أعلنها قبل ذلك- أن هؤلاء يُحدّثون الناس عن سِير الخلفاء الراشدين فيجعلونهم يُقارنون بينهم وبين خلفاء بني أمية، فيستصغرون شأن الأمويين. وذلك كان يجعل من سياسته أن يهين الصالحين وأهل الحديث ليمنعهم من التحدّث إلى الناس بالحق.

وكان أكثر كلامه في خطبه لمن تولى أمرهم، كأهل العراق بعد أن وضع الأمويون يدهم عليها تهديدًا ووعيدًا. فقد قال في خطبته لأهل العراق حين عُيّن واليًا عليهم: "يا أهل الكوفة (عاصمة العراق).. إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى!". هذا فضلاً عن ما جاء في خطبته الشهيرة تلك من "وصلة" طويلة من السب واللعن والذم في رعيته وتهديدهم بكل شنيع من العقاب.. مما ينطبق عليه بشدة قول: "أول القصيدة كُفر"!

ولم يتوقف بإساءاته وبذاءة لسانه عوام الناس فقط، بل امتد بذلك إلى أنبياء الله، فوصف نبي الله سليمان -عليه الصلاة والسلام-بأنه "حسود" تعليقًا على دعاء ربه أن يهبه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!

وكانت فيه جرأة على الإفتاء في الدين بما ليس له به علم بل وفرضه بقوة السلاح وتحت التهديد بالقتل. فقد أفتى بعدم جواز قراءة القرآن على قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وكان يقول إنه لو وجد مصحفًا به القرآن على القراءة المذكورة لكشطه ولو بضلع خنزير، ثم يتبع قوله هذا بسبّ ابن مسعود والقول بأنه لو كان عبد الله بن مسعود حيًا لقتله.

أما الجريمة الأكثر شهرة للحجاج فقد كانت ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق عندما حاصر مكة المكرمة وتحت إمرته جيش الشام الأموي؛ من أجل أسر عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- وتوطيد مُلك بني أمية في الحجاز، بعدما وطده في الشام والعراق.

كان ابن الزبير قد اتخذ مكة عاصمة لخلافته ورفض مبايعة بني أمية؛ لأنه رأى فيهم مغتصبين للحكم ومغيرين للنظام الإسلامي لسياسة المسلمين. فقام عبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي الخامس- بإرسال الجيوش؛ لطرد رجال ابن الزبير من العراق ومكة والمدينة. كان عبد الله بن الزبير قد تحصّن في مكة وشحنها بالرجال والسلاح، فأمر الحجاج جيشه باتخاذ المواقع للحصار من فوق الجبال المحيطة بمكة. وقام بنصب المجانيق على قمم الجبال لقصف البلد الحرام! وبالفعل انطلقت القذائف الصخرية والمشتعلة نحو البلدة المقدسة وبلغت الكعبة التي أصابتها الشروخ واشتعلت فيها النيران -كل هذا بجرأة بالغة وعين لا تطرف- وعندما هوت صاعقة على أحد المجانيق فأحرقته وقتلت بعض العاملين عليه شعر المقاتلون أن تلك الصاعقة غضب من الله لانتهاك حرمة بلده الحرام، فسارع الحجاج بالقول إن تلك الصاعقة علامة على رضا الله لا سخطه، مبررًا ذلك بأن هابيل وقابيل ابني آدم -عليه الصلاة والسلام- عندما قرّب كل منهما قربانًا لله ورضا الله عن قربان هابيل، أرسل من السماء لسانًا من نار فالتهمه، فتلك الصاعقة لسان النار الذي يعلن رضا الله عما يفعل جيش الحجاج! -وهو قول لا يصدر إلا عن رجل بلغت جرأته على الله ومقدساته درجة مخيفة!

استمر ضرب مكة واشتد الحصار وبدأ أتباع ابن الزبير يتخلون عنه حتى صار وحده، لكنه أصرّ على الصمود فاقتحم الحجاج وجيشه الحرم المكي وقتلوا عبد الله بن الزبير وقطعوا رأسه وصلبوا جسده منكسًا؛ ليعلن جريمة وحشية جديدة للحجاج.

تلك الفعلة الشنعاء -على فظاعتها- لم تكن أشد مما اعتاد عليه الحجاج من سفك لدماء الناس، التي يقول الدين إنها أكثر حرمة من مكة ذاتها! فقد كان غشومًا مسارعًا للخوض في الدم والقتل والاعتقال لمجرد الشبهة، حتى أنه حين مات كان قد بلغ عدد قتلاه مائة وعشرون ألف نفس، وعدد مَن في سجونه ثمانون ألف مسجون منهم ثلاثون ألف امرأة! وهي أرقام ضخمة في زمننا هذا فما بالنا بزمن الحجاج حيث كان عدد الناس أقل!

ما قيل عن الحجاجولأن الحجاج كان "حالة" صارخة شديدة الشذوذ نفسيًا وسلوكيًا، ولأن أفعاله كانت قد بلغت خطورة مخيفة، فقد أثار أقاويل الناس. بل أنه ذُكِرَ في الأحاديث قبل حتى أن يُولد! فقد تنبأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن قبيلة ثقيف سيخرج منها "مبير" أي "مُهلِك قاتل". وقال الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وكرّم وجهه- إن ثقيفًا سيخرج منها فتًى يقال له يوم القيامة "أكفنا إحدى زوايا جهنم". وقال عنه أيضًا فيما جاء في الحديث إنه سيأتي من ثقيف فتى لا يَدَع معصية إلا ارتكبها ولو كان بينه وبينها باب لكسره. كما قال عنه الخليفة عبد الملك بن مروان إن بينه وبين إبليس نسبًا، وقال عنه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه: "لو جاءت كل أمة بخبثها وجِئناهم بالحجاج لكفيناهم". بل وقد قال عنه أبوه نفسه -قبل أن يتولى الحجاج أي من وظائف السلطة: "إنه -أي أباه- ليرى الله جعله جبارًا شقيًا".

نهاية الطاغية

بينما هو يعيش نشوة انتصاراته وأوج قوته، فاجأ المرض الحجاج بن يوسف فسقط سريعًا أمامه، وعاش أواخر أيامه يتعذّب من آلام مرض موته، ويقال إن جوفه أصابه التعفّن حتى كان الدود يعيش فيه. وكان كلما تلوى ألمًا يقول: "أصابتني دعوة سعيد بن جبير". وسعيد بن جبير رجل من فقهاء مكة من التابعين، قتله الحجاج لخروجه عليه. فدعا عليه ابن جبير قبل موته، فضلاً عن آلاف الدعوات واللعنات التي استنزلها عليه كل من أحرقتهم نار طغيانه.

شكل جديد من الفساد

كان الحجاج يُمثل "حالة" فريدة من نوعها؛ لأنه كان يجمع التناقضات في القول والفعل. وهذا هو نوع الفساد الذي كان يمثله. فتلازم ما به من عنف ودموية وجرأة على المحرمات مع ما كان يظهر منه مِن عفة يد عن مال الدولة وخشوع صادق في الصلاة وبكاء عند زيارة القبور وذكر الموت وأمر الآخرة، ومسارعته لإرسال المجاهدين للفتوحات في الهند والصين، يجعل المرء يحار في أمره، ويفتن ضعاف العقول والتفكير فيحسبونه على حق فيما يفعل ويبررون جرائمه بأنها من ضرورات السياسة وحفظ أمن الدولة. الأمر الذي يعني أن ضرر فكر الحجاج ومنهجه في السياسة لم يقف عند حد "الواقعة التاريخية الشاذة"، بل إنه يتجاوز ذلك ليُصبح "مدرسة في السياسة وصاحب منهج في الحكم"، يبرر بعد ذلك للكثيرين أن يخوضوا في أعتى أنواع الطغيان والقمع بجرأة ظنًا منهم أن الحجاج ممن يُقتَدَى به في تلك الأمور.

كان الحجاج يَعتبر أن ما يفعله يقع تحت بند "الواجب" الذي لا يتم حفظ أمن البلاد إلا به. ففي ذلك الوقت كانت حركات التمرد التي قادها الخوارج على أشدها، وكانت الحركات الاستقلالية من بعض قادة الجيش الأموي في أوجها، وكان ابن الزبير يُسيطر على جزء كبير من الدولة الإسلامية. فكان الحجاج يرى أن تلك الظروف تقع تحت وصف "الطوارئ والضرورات التي تبيح المحظورات"، فكان ينفّذ سياسته الدموية لا بشكل عشوائي انفعالي بل بصورة منهجية منظمة، أي أنه -بمعنى أدق- كان يعرف جيدًا ما الذي يفعله وكيف يفعله ولماذا يفعله!!.. منفذًا سياسة معدة مسبقًا في ذهنه، ورؤية صاغها بعناية وهو يعتبر نفسه مجتهدًا إذا أصاب له أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد!

هذا هو شكل الفساد الذي يُمثله الحجاج، فهو ممن يصفهم علم الإجرام بأنهم "مجرمون أصحاب عقيدة"، وهم أخطر أنواع المجرمين، فهم يرتكبون جرائمهم وهم يؤمنون داخليًا أنهم على حق. والأخطر حين يصل أمثال هؤلاء للمناصب الأمنية أو السيادية، فعندئذ يُصبح الفارق الوحيد بينهم وبين المجرم في الصورة التقليدية له هو أنهم يحملون صفة رسمية بينما هو لا يحمل.

هكذا كان الحجاج... وللأسف فإنه لم يكن الحجاج هو الأول أو الأخير.. فمن بعده أتى آلاف مثله... فهو كما قلت ليس مجرد شخص.. بل هو مدرسة....
الكاتب: وليد فكري

مصادر المعلومات:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- علم الإجرام والعقاب: د.رمسيس بهنام.
3- ما وراء التعذيب: بسمة عبد العزيز.
4- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان.
5- الحجاج بن يوسف الثقفي في الميزان: محمد ناصح مؤيد العظم.
6- موسوعة عظماء حول الرسول: خالد عبد الرحمن العك.
7- موسوعة تاريخ العرب: عبدعون الروضان.
8- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي.
9- رجال حول الرسول: خالد محمد خالد.
10- الجريمة: محمد أبو زهرة.
11- الأحكام السلطانية: الإمام أبو الحسن الماوردي.
12- النظام السياسي للدولة الإسلامية: د.محمد سليم العوا.
13- خلفاء الرسول: خالد محمد خالد.
14- عمر بن عبد العزيز: عبد الرحمن الشرقاوي.
15- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس.
16- الطغاة والبغاة: د.جمال بدوي.
17- أبناء أبي بكر الصديق: عبد الحميد جودة السحار.

المُفسِدون في الأرض (4)

المفسدون في الأرض (4)
فتنة المسلمين الكبرى
فتنة سوداء عاصفة, تلك التي اجتاحت المسلمين بعد اغتيال عمر بن الخطاب وتولي عثمان بن عفان -رضي الله عنهما-الخلافة. فتنة دامية حمل فيها المسلم السلاح في وجه أخيه, بعد أن كانت الأسلحة لا تُرفَع إلا على الفُرس والروم وأعداء الإسلام. فتنة أيضًا في الدين.. جعلت فيه ما ليس فيه من تأليه لبشر ودمج للأفكار الوثنية في صلب العقيدة!فتنة.. أجمع الكل أنها نتيجة مؤامرة من هؤلاء الأعداء سالفي الذكر, وإن لم يتفقوا على مدبر واضح لها إلا أن اسمًا واحدًا تردد بشدة تحت أصابع الاتهام, اسم "عبد الله بن سبأ"!

توفي عمر وجاء عثمان, فارق كبير بين الأول والآخر, وأمر طبيعي أن تكون لكل منهما سياسته ورؤيته في الإدارة والحكم. وسياسة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان لها كثير من المعارضين, وهم بين غير مقتنع ببعض مظاهر تلك السياسة, كعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري -رضي الله عنهما- أو من يرون أن الإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- أولى بولاية أمر المسلمين, كسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص "رضي الله عنهما". ولكن تلك المعارضة لم تخرج عن حدود الاختلاف الطبيعي في الرأي بين رفاق رحلة الكفاح الطويلة لرفع كلمة الإسلام, ولم تصل لمرحلة "رفض ولاية عثمان" أو الدعوة للخروج عليه. كانت معارضة عاقلة تفاعل معها أمير المؤمنين عثمان بن عفان بحكمة ورُقي, كما يجب للمعارضة أن تكون, وكما يجب للحاكم أن يفعل.ولكن تلك الصورة الجميلة تلوثت بدم عثمان بن عفان الذي قتله بعض الغوغاء الذين تمردوا عليه وانتهكوا حرمة المدينة المنورة -عاصمة الدولة- فدخلوها بسلاحهم وحاصروه ومنعوا عنه الماء واقتحموا داره وسفكوا دمه وأدخلوا على الدولة الإسلامية سُنة الجرأة على قتل الخلفاء!تلك الجريمة تمت بتنظيم وتنسيق كبير, لعب فيه "عبد الله بن سبأ" دورًا رئيسيًا.

عبد الله بن سبأ وجرائمه

وعبد الله بن سبأ يهودي يمني من أم حبشية, ولهذا كان يقال له "ابن السوداء", ادعى اعتناق الإسلام ليتمكن من الكيد له على المستويين الأمني والعقائدي. من حيث تآمره على أمن الدولة الإسلامية, قام ابن سبأ بجولة في مدينتي الكوفة والبصرة (في العراق), وجولة مماثلة في مصر, لحشد المتعاونين معه من المتمردين على حكم عثمان بن عفان, وإقناعهم بضرورة تصعيد المعارضة لنقطة الثورة المسلحة ضده. مسعى ابن سبأ كان عسير التحقق لولا وجود أرض خصبة له.

فابن سبأ أجاد اختيار من وجّه لهم خطابه الخطير, فقد وجهه إما للناقمين على قريش تسيّدها للدولة الإسلامية, أو للرافضين لبعض ما استحدث عثمان بن عفان من سياسات وقرارات إدارية, أو لمن يحملون ضغائن شخصية تجاه الخليفة, بالإضافة لأن كل هؤلاء كانت النسبة الأعلى منهم ممن ليست لهم صحبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- فكانت هيبة الصحابة عندهم أقل من غيرهم, وإلا ما كانوا ليفكروا مجرد التفكير في رفع السلاح في وجه صاحب رسول الله وصهره وخليفة المسلمين!

كان أكثر عنصر استغله ابن سبأ ومن تعاونوا معه في تلك المؤامرة الكبرى, ذلك الخلاف الكبير في الآراء بين بعض كبار الصحابة وعثمان بن عفان -رضي الله عنهم جميعًا- فعلي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- كان يُعارض اعتماد عثمان شبه الكامل على أقاربه في ولايات الدولة, وعمرو بن العاص -رضي الله عنه-كان يعارض سياساته في إدارة مصر, وأبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- كان يرفض انتشار الترف ومظاهر الثراء العريض بين الصحابة, وغيرهم كثير اختلفوا مع الخليفة, لكن ما لم يفهمه الكثيرون ممن خرجوا مع ابن سبأ, هو أن تلك الخلافات لم تخرج عن نطاق اختلاف الرؤى ولم تكن تعني أنهم يدعون للثورة عليه أو خلعه أو قلته, مهما بلغت حدة الخلاف, وأنه من الطبيعي جدًا أن يختلف رفاق الكفاح فيما بينهم, بل هو أمر صحي وفيه سعة للمؤمنين طالما أن الخلاف بقي في نطاق الأمور المرنة التي تختلف باختلاف رؤية صاحبها.

ابن سبأ قام بعملية تكثيف لذلك الخلاف وجعل المتمردين يرونه في شكل دعوة صريحة من الصحابة المذكورين, ومن وافقهم الرأي, للخروج على الخليفة بخلعه أو قتله, بل وظهرت رسائل مزورة تحمل توقيعات كبار الصحابة وزوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام- تدعو الناس لخلع عثمان وتعلن إهدار دمه! تلك الرسائل تزامنت مع جولات عبد الله بن سبأ في البلاد واستعداد من لاقاهم للخروج والتوجّه للمدينة لفرض رؤيتهم بقوة السلاح! أكبر دليل على زور تلك الرسائل وكذبها هو أن الصحابة الواردة أسماؤهم بها كانوا أقوى الناس دفاعًا عن حياة الخليفة عندما حوصِرَ في بيته, وكانوا كذلك أشرس المطالبين بالقصاص له بعدما قُتِل.

أما الجريمة التي ارتكبها ابن سبأ في حق العقيدة ذاتها فكانت الأكبر بحق! فقد بدأ يتسلل لأوساط المتعصبين للإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- ويدس بينهم أفكارًا فيها تحريف للعقيدة, كانت هي بداية نشأة المذهب الشيعي في بلاد الإسلام.

فأولاً جاء ابن سبأ بفكرة "رجوع النبي", فقال: "عجبت لمن يقولون بعودة عيسى بن مريم ولا يقولون بعودة محمد", وقال إن تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] هو أن الرسول -عليه الصلاة والسلام-سيُبعث مجددًا ويعود ليعيش ويحكم بين المؤمنين! كما اختلق فكرة "الوصاية" وهي بقوله إن لكل نبيّ وصيّا, أي لكل نبي رجل يخلفه في قومه, وقال إن عليا وصيّ محمد.

لم يتوقف ابن سبأ عند اختلاق تلك الفكرتين اللتين لاقتا قبولاً من المتعصبين للإمام علي, دون أن يكونوا على علم سليم بالدين, بل تمادى وقال بحلول روح الله تعالى في علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- مما يعني ألوهيته! مقحمًا بذلك بعض مكونات الديانة الفارسية القديمة التي كان لها وجود قديم في مسقط رأسه اليمن -آنذاك- من حلول روح الإله في البشر, وأفكار تناسخ الأرواح, إلى آخر تلك الأفكار الوثنية التي سعى ابن سبأ لجعلها تتسلل للعقيدة الإسلامية.

مأساة عثمان

دعوة ابن سبأ لاقت رواجًا في المدن التي جال فيها, فخرج المتمردون منها وهم يُظهِرون رغبتهم زيارة البيت الحرام ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم فاجأوا الجميع بدخولهم المدينة وإثارتهم الفوضى ومجاهرتهم بالخروج على الخليفة, وكادت تحدث مجزرة مسلّحة بينهم وبين أهل المدينة والموالين لعثمان بن عفان, لولا تدخل علي بن أبي طالب ووساطته بينهم وبين أمير المؤمنين وسعيه لوصول أطراف الخلاف إلى حل وسط. وبالفعل نجح في ذلك حيث تحاور الطرفان -الخليفة والثوار- ووصلوا إلى اتفاق يرضاه الجميع حول نقاط الخلاف المثارة, مثل اعتراضهم على بعض الولاة, ومطالبهم بشأن بعض السياسات المالية للدولة... إلخ.. وأخيرًا خرجوا من المدينة وتوجهوا إلى بلادهم.

ولكن للأسف, ما كاد الصحابة يتنفسون الصعداء لانتهاء الأزمة, حتى فوجئوا بالمتمردين يعودون للمدينة ويرفعون السلاح في وجه أهلها ويحاصرون بيت عثمان بن عفان معلنين إهدارهم دمه! كان السبب المعلن أن هؤلاء الناس قد وقع في أيديهم رسول من الخليفة لولاة البلدان التي أتوا منها, برسائل يأمرهم فيها بقتل هؤلاء المتمردين فور وصولهم لبلدانهم, فعدوا ذلك غدرًا يخرق الاتفاق المبرم ويجعلهم في حِل من الالتزام به.

حتى الآن غير مثبت إن كانت تلك العودة مدبرة مسبقًا, مما يعني أن الاتفاق المعقود توًا كان مجرد مناورة, أو أنها كانت ارتجالية, خاصة أن الثوار قد أمسكوا بالفعل بغلام لعثمان -رضي الله عنه- معه رسالة مزورة باسمه فيها ما قالوا. ولكن المثبت والأكيد أن تلك الرسالة قد كُتِبَت بغير علم الخليفة, مما يعني أن أصابع المتآمرين قد بلغت درجة مخيفة من التسلل إلى حَد إرسال غلام الخليفة على أحد جِماله برسالة خطيرة كهذه! ومرة أخرى تشير الأصابع لعبد الله بن سبأ والمتعاونين معه في مؤامرته تلك.

والمُلاحَظ أن دور ابن سبأ في الأحداث لم يظهر إلا بعد ذلك, فطوال تلك الفتنة القوية لم يرد اسم ابن سبأ أو يظهر وجهه في الصورة للصحابة, بل كان يتحرك بدهاء شديد من وراء ستار معتم. كما أن تركيز الصحابة آنذاك لم يكن على كشف مصدر القلاقل بقدر ما كان منصبًا على إيقاف العجلة المتسارعة للفتنة المهددة بتدمير الدولة الإسلامية الناهضة توًا!

وللأسف.. نجح المتآمرون في تلك المرحلة من خطتهم, وقُتِلَ أمير المؤمنين عثمان بن عفان في منزله بعد أن تسلل بعض الخارجين عليه من السور وضربوه بالسيوف وهو صائم يقرأ القرآن.

ظهور الشيعة

المرحلة التالية لخطة ابن سبأ في ضرب الإسلام تمثلت في الفرقة التي أسسها وهم "السبئية", وهي أول فرقة منشقة عن الإسلام السليم تظهر, وكانت أفكارها منصبة على الطعن في الشيوخ أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- والتعصب للإمام علي -كرم الله وجهه- إلى حَد تكفير من لا ينادي بإمامته وأحقيته بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. ثم بلغوا حد ادّعاء ألوهية الإمام علي, وعودة الموتى للحياة مرة أخرى قبل يوم القيامة, ورجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحياة مرة أخرى.

وعندما تولى الإمام علي الخلافة, جاهر السبئيون بدعوتهم, مما جعله يتصدّى لهم بقوة, ويأمر بإحراق بعضهم عقابًا لهم على ما أحدثوا في العقيدة, والمثير أن من حُكِمَ عليهم بذلك كانوا -أثناء احتراقهم- يشيرون للإمام ويقولون له أنهم تأكدوا أنه هو الله؛ لأن الله وحده من يحرق بالنار!

هذا كان مصير أتباع الدعوة الدينية لابن سبأ, أما عنه هو فقد نفاه الإمام إلى المدائن, والبعض يقولون إنه لم يُنفَ بل قُتِل. ثمة اختلاف على تلك النقطة, ولكن المتفق عليه أن عبد الله بن سبأ قد اختفى تمامًا بعد معاقبة الإمام للسبئية, وإن لم يختفِ مذهبه الذي أخذ يتسلل ويستفحل, ويتبناه بعض المغالين في التعصب للإمام علي -كرم الله وجهه- حتى ظهرت فرق الشيعة العصية على الحصر!
والمثير -كذلك- أن أئمة الشيعة -بالذات الاثنا عشرية- يُنكِرون وجود شخصية عبد الله بن سبأ من الأساس, ويقولون إنها شخصية أسطورية اختلقها السنيون ليطعنوا في المذهب الشيعي.

الخلاصة

السؤال الآن: من كان وراء ابن سبأ؟ إن أصابع الاتهام تشير لجهات عدة, فالأصل اليهودي لابن سبأ يشير لاحتمال وجود دور لليهود في تلك اللعبة, خاصة مع قرب عهدهم بالهزائم المتكررة على يد المسلمين خلال فترة الصراع الإسلامي اليهودي في المدينة وخيبر. والبعض يشير إلى دور الفُرس في الأمر, خاصة أنه بدأ بعد جريمة اغتيال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيد رجل فارسي هو أبو لؤلؤة, وكذلك لوجود عناصر فارسية في اليمن -موطن ابن سبأ- ولوجود آثار من ديانة الفُرس في الأفكار الدينية للسبئية. ولم تبعد أصابع الاتهام عن الروم الذين كانوا قد تلقوا توًا أعتى الهزائم على يد الجيوش الإسلامية, وكانوا -بالتزامن مع الفتنة- يحاولون احتلال مصر مجددًا.

من المؤكد أن عدد المستفيدين من تلك الفتنة الكبرى كان كبيرًا! ومن المؤكد كذلك أنها كانت مخططة ببراعة ومنفذة بدقة تشي بأن الأمر أكبر من مجرد تخطيط لرجل واحد, وأنه أمر دُبّرَ مسبقًا بدهاء كبير وسرية شديدة.

ومما يشي بحجم تلك المؤامرة, أن الأمة ما زالت تعيش ذيولها إلى الآن, فما فعله ابن سبأ بالعقيدة نرى نتيجته الآن في ذلك الصراع السني الشيعي المرير الذي عانى منه المسلمون والعرب على مر تاريخهم, وما زالوا يقاسونه في وقت تتهددهم فيه الأخطار من كل جانب. وكذلك نرى آثاره في أن منذ مقتل عثمان رُفِعَت من بيننا -عربًا ومسلمين- رهبة حرمة الدم, فتجد العربي يجترئ على قتل أخيه والمسلم يتساهل مع حرمة دم المسلم، كأنما كان مقتل عثمان إشارة البداية للمسلمين أن يكونوا أكثر "شجاعة" في انتهاك حرمات دمائهم التي حرمها الله تعالى إلا بالحق! ولأن الحاضر ما هو إلا صورة متطورة من الماضي, فإن ما بتنا فيه ليلة مقتل عثمان.. نصحو فيه اليوم.. وإلى ما شاء الله.
الكاتب: وليد فكري
المصادر:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان.
3- علي إمام المتقين: عبد الرحمن الشرقاوي.
4- موسوعة عظماء حول الرسول: خالد عبد الرحمن العك.
5- تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة.
6- الفرق والجماعات الدينية: د.سعيد مراد.
7- رجال حول الرسول: خالد محمد خالد.
8- اليد الخفية: د.عبد الوهاب المسيري.
9- تاريخ الخلفاء الراشدين: د.محمد سهيل طقوش.
10- لله ثم للتاريخ: حسين موسوي.

المُفسِدون في الأرض (3)

المفسدون في الأرض (3)
عندما كان العرب يعبدون عزيزة!!
جزيرة العرب تلك الأرض المباركة التي شرّفها الله بأن جعل فيها كعبته المشرّفة، داهمتها الوثنية بمئات من الأصنام والأوثان والمعبودات من دون الله "عزّ وجلّ" أو بالإشراك معه في وضع يُؤلم كل ذي عقل وفكر.
ومكة.. تلك البلدة المكرّمة، صارت علامة للشرك والوثنية بعد أن كانت الحصن الأخير للتوحيد..فمن السبب؟عندما أسّسَت مكة، كان سكانها هم هاجر وإسماعيل وأبناؤه -عليهم الصلاة والسلام- وقبيلتي "جُرهُم" و"قُطَوراء".

حدث تزاوج وتمازج بين كل هؤلاء مما أنتج المجتمع المكي الأول في صورته القديمة. ولأن مكة -آنذاك- كانت صغيرة المساحة قليلة الموارد، فقد وجدت القبيلة أن على بعض أبنائها الهجرة من البلدة المباركة التي ضاقت على أهلها، والسعي في الأرض وإقامة مجتمعات جديدة.

كانت تلك أولى الهجرات الكبرى من مكة لأطراف جزيرة العرب، وخرج المهاجرون وقد حملوا معهم حجارة من الكعبة تذكارًا لوطنهم الأم وبيتهم المعظم، وانطلقوا إلى الأرض العربية الواسعة حيث أقاموا قبائل كبيرة وأسس بعضهم ممالك ودويلات، وتناسلوا في مهجرهم وأتوا بأجيال جديدة لا تعرف عن مكة سوى أنها أرض الأجداد.

تلك الأجيال سرعان ما انتشر فيها البُعد عن التديّن والطابع الأصيل للحياة العربية، فرأى المشايخ وأصحاب الرأي الذين شهدوا تلك الهجرة الأولى لقبائلهم الناشئة أن يُخرِجوا لأبنائهم الحجارة التي انتزعوها من الكعبة؛ ليذكروهم بأصلهم النبيل، فأخرجوها ووضعوها في أماكن معظمة، وأخذوا يطوفون بها. ولكن كما يقال فإن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة!

فقد كان ذلك الطواف على سبيل التعظيم لا أكثر، ولكن مَن قرروه نسوا أن الكعبة تُطاف لا لقدسية أحجارها بل لقدسية موقعها. كانت تلك ثغرة عميقة في محاولة إحياء التدين التي قام بها شيوخ قبائل العرب الأولى، لذا فسرعان ما أتت أجيال توهمت أن تلك الحجارة إنما تُعبَد لذاتها، فبدأت أول عبادة لحجر في الجزيرة العربية..

البذرة الأولى

ولكن قبل أن نركن لذلك التفسير المبدئي لدخول الوثنية لجزيرة العرب فيما بعد رسالة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- علينا أن نضع أيدينا على البذرة الأولى لذلك الانحراف الصارخ عن دين الله.

فقد كانت المنافسة على أشدها في مكة بين قبيلة جُرهُم بقيادة مضاض بن عمرو، وقبيلة قطوراء بقيادة السميدع، كلاهما تسعى للسيطرة على الزعامة السياسية والتجارية للمدينة، بل والدينية أيضًا، فسعت جُرهُم لاصطناع أصل لنفسها بأن نسبت نفسها لجد أكبر اخترعته وزعمت أنه كان أحد ملائكة السماء ثم أذنب فنزل منها في هيئة البشر وأتوا هم مِن نسله.

وصاروا يتفاخرون على أهل مكة وهم يطوفون الحرم قائلين: "لاهُما (اللهم) إن جُرهُمًا عِبادُكا .. القوم طَرفٌ وهمُ قِلادُكا".

فلما تصدت قطوراء لذلك البغي العظيم حاربتها جرهم ودارت بينهما معركة ضارية انهزمت فيها قطوراء وقُتِلَ زعيمها السميدع واستمرت جرهم على بغيها، حتى جاءها يومٌ طُرِدَت فيه من مكة بالقوة بعد أن ضج أهل البلد الحرام بذلك العدوان على مقدسات الله.
ولكن للأسف لم يمنع هذا انتشار العبث بالمقدسات وتحويل دين التوحيد إلى وثنية مطلقة، بل أجّله فقط.. فإن كان ذلك التحول قد تأخر في مكة، فقد كان سريعًا للغاية فيما سواها من بقاع جزيرة العرب.

استيراد الآلهة

موقع الجزيرة فرض على العربي القيام بدور كبير في حركة التجارة الدولية، فكانت قوافله تذرع طرق الشام واليمن ومصر وفينيقيا والعراق، وكانت تعود محملة لا بالأموال والبضائع فحسب، بل بالثقافات المختلفة وبالذات الدينية.

فقد أخذ العرب عن المصريين تقديس أرواح الأسلاف، وهذا عن طريق تقديس الصالحين من المتوفّين والتوسل بهم في الدعاء، والذي تحول تدريجيًا إلى عبادة لهؤلاء الأشخاص أنفسهم. كذلك أخذوها عن أسلافهم القدامى الذين عبدوا "ودا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا". وأخذوا تقديس النجوم والاعتقاد في تأثيرها على مجريات الأحداث، عن البابليين.

أما عن الآلهة نفسها، فمعظمها مأخوذ -كذلك- عن حضارات أخرى، ولكن تم تغيير اسمه وبعض صفاته ليتلاءم مع الطبيعة العربية. فـ"مناة" هي في الأصل الآلهة البابلية "مامنتو", وكانت -على الأرجح- آلهة للقدر والموت، و"العُزى" هي -في أقوال- "أفروديت"، وفي أقوال أخرى "إيزيس"، وكان اسمها أولا "العزيزة" ولكن العرب كانوا يميلون للتفخيم فسموها "العُزى" أي "الأكثر عِزة"، و"هُبَل" إله الشِعر وأعظم آلهة قريش تقديسًا، هو في الأصل "أبوللو" إله الشعر اللاتيني وهكذا..

وكان سادات العرب يعودون من أسفارهم بتماثيل يأمرون قومهم بعبادتها, أو يبتكرون آلهة جديدة، وينسجون حولها الأساطير، فيجعلون بعضها بنات الله، كمناة والعُزى، أو يجعلون أحدها زوجته، كاللات، ويقولون أنهن يُعبَدن مع الله للتقرب إليه!

ولأن العربي بطبعه يميل للنمط القبلي في الحياة، وما يتبع ذلك من تبعية شبه مطلقة لسيد القبيلة، فقد كان من السهل على سادات القبائل تغيير عقائد قومهم خاصة مع ما للعربي مِن ميل للبحث في أصول ما يحيطه من أشياء، وكانت تلك الآلهة وما يرتبط بها من أساطير للخلق والتحكم بالظواهر والأحداث تمثل للعربي البدوي تفسيرات مباشرة لأسئلته. فكان الأمر بمثابة صفقة بين طرفين، الأول هو رجل القبيلة العادي الذي ينال غايته في معرفة أصول الأشياء، والآخر -وهو المستفيد الأكبر- هو سيد القبيلة الذي يكتسب من نشره عبادة الأصنام بين قومه مكانة دينية عالية، فضلاً عن المكاسب المادية الناتجة عن القرابين والنذور المقدمة للآلهة.

السادة

كل إله عُبِدَ من دون الله في جزيرة العرب كان وراءه سيد يريد من نشر عبادته تحقيق غرض ما.. فإساف ونائلة أول من وضعهما عند الحرم كان "قُصَي بن كلاب"، و"ظلام بن سعد" هو أول من وضع العُزّى للعبادة، ونجم "الشعرى" أول من قدّسه كان "وجرة بن غالب الخزاعي".. كلهم كانوا سادات لقومهم، إلا أن من تفوق عليهم في تلك اللعبة الدنيئة كان "عمرو بن لحي الخزاعي"، وهو أول من جعل الأصنام تُعبَد في مكة!

فعمرو بن لحي كان من قبيلة خزاعة التي كانت -آنذاك- تسيطر على مكة، وكان أثرى قومه وأكثرهم عزًا ومنعة وأعلاهم كلمة، وكان يحب من حين لآخر أن يوطد سطوته بأن يضع التشريعات لأهل مكة.

تلك التشريعات لم تكن لأمور حياتية جدية ذات فائدة، بل كانت فيما يتعلق بالإبل والأنعام، وكانت شديدة العبثية والسفه، فقد شرّع أن الناقة التي تولد بعد عشرة نوق إناث ليس بينهن ذكر تُسَمّى "السائبة" فلا يُركَب ظهرها ولا يُجَزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وإذا أنجبت أنثى سُمّيت المولودة بـ"البحيرة" وشُقّت أذنها وصار وضعها كما هو وضع أمها. والشاة لو أنجبت عشر إناث في خمس بطون ليس بينهن ذكر سُمِيَت "وصيلة" ويكون ما ولدت من حق ذكور أصحابها دون إناثهم إلا الميتة منها (وكانوا يأكلونها) فيشترك في أكلها الذكور والإناث. أما فحل الإبل إذا نتج له عشر إناث ليس بينهن ذكر صار ممنوعًا ركوب ظهره أو جز وبره وتُرِكَ يرعى ويجامع ولا يُنتَفَعُ به في غير ذلك وسُمِيَ "الحام"، وقد أنزل الله تعالى في ذلك:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].

تلك التشريعات العبثية فرضها عمرو بن لحي على أهل مكة، وانتشرت بعد ذلك بين العرب. ولكن هذا لم يكفِه، فقد سافر إلى الشام والعراق للتجارة، فوجد قومًا يعبدون صنمًا فسألهم عنه فقالوا: "هو صنمنا إذا انقطع المطر توسلنا إليه فنُمطَر، وإذا حاربنا دعوناه فننتصر" فأخذ صنمًا منهم ونصبه في قلب مكة وأمر أهلها بعبادته -وهو"هُبَل"- ثم يقال إنه بعد ذلك أعاد إحياء عبادة آلهة قوم نوح "وَد وسواع ويغوث ويعوق ونسر"، وكان أول من أمر بعبادة إساف ونائلة (اللذين نقلهما قُصي بعد ذلك إلى الحرم).

وهكذا صار أول من بدّل دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقلب مكة، وتبدلت تلبية الحجاج من: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" إلى: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما مَلَك". وقد أخبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- أنه رأى في معراجه إلى السماء عمرو بن لحي يجر أمعاءه في جهنم.

رجال الدين

ولأن لكل دين رجاله، فقد ظهرت الوظائف الدينية، كالسدنة، وهم خُدام الإله والواسطة بينه وبين العباد، وكانت مكانة السادن حسب مكانة إلهه، فكانت لسدنة الكعبة الصدارة، ثم سدنة الآلهة الكبرى كهبل واللات والعُزى، ثم سدنة باقي الآلهة.
كذلك ظهرت "الكهانة"، والكهنة هم رجال ونساء يدعون اتصال الأسباب بينهم وبين الآلهة والجن وسائر القوى الخارقة، فيتنبئون بالمستقبل والمجهول -بمعاونة الجن غالبًا- ويتحدثون بالسجع والرموز، ويحكمون فيما يجري بين العرب من نزاعات وما يغمض عليهم من أمور.

وجعلوا عند الأصنام "القِداح"، وهي جعبة بها سهمان مكتوب بأحدهما "افعل" والآخر "لا تفعل"، فإذا أراد المرء أن يقضي أمرًا استشار إلهه بضرب القداح، فإما أن يخرج سهم "افعل" أو أن يحجم عما أراد! وظهرت وظيفة "الناسئ" وهو رجل كانت وظيفته أن يحلل أحد الأشهر الحُرُم مقابل تحريم أحد الشهور الحلال، وهذا وفق ما تقتضي مصلحة قبيلته إذا أرادت قتالاً أو ثأرًا من قبيلة أخرى. فكان هذا من أشنع أنواع العبث بأشهر الله الحرم.

تلك الوظائف حرص سادة العرب على توطيد مكانتها حفاظًا منهم على مكانتهم السيادية بحكم إشرافهم عليها من حيث الإنفاق عليها وحماية عبادتها.

كذلك ظهرت بدعة جديدة بين العرب هي "الحمس"، وهم سكان مكة ومحيط الحرم من قريش وخزاعة، فقد كانوا يفرضون على أنفسهم طقوسًا غريبة أثناء موسم الحج كألا يمخضوا اللبن أو يصنعوا الزبد أو يغزلوا الوبر والشعر أو أن يستظلوا به، وفرضوا على الناس أن يطوفوا بالكعبة في ثياب خاصة صنعها الحمس، أو أن يطوفوا عرايا، فعلى حد قولهم: "لا يصح أن نطوف في ثياب قارفنا فيها الذنوب"، فكان أكثر الفقراء يطوفون بالكعبة -رجالاً ونساءً- عراة! وكان الرجل من الحمس إذا عاد لبيته أثناء الإحرام لم يدخله من بابه بل من ظهره! إلى آخر تلك السفاهات التي شرّعها سادات العرب ليذهبوا بالعقول ويصبحوا هم المتحكمين بها.

تلك البدع لم تمر دون محاولات من بعض العقلاء لمقاومتها، فقد رفض الكثيرون اعتناق تلك الخرافات وتمسكوا بدين إبراهيم. وكان من أبرز هؤلاء الذين اعتنقوا الحنيفية وسعوا للإصلاح "زيد بن عمرو بن نفيل" -أبو الصحابي سعيد بن زيد رضي الله عنهما- الذي أقسم ألا يسجد لصنم أو يأكل ما ذُبحَ تحت وثن أو يلبي بتلبية الشِرك، وحاول نشر مذهبه بين قومه فحاربوه واضطهدوه وطردوه من مكة فعاش شريدًا في الصحراء حتى تعرّض له بعض قطاع الطرق فقتلوه، فتنفس سادات مكة الصعداء ولكن إلى حين..

فمِمن عاصروا تجربة زيد بن عمرو بن نفيل، وتألموا لنبأ قتله، فتى من بني هاشم كان أصحاب الفراسة موقنين أن سيكون له شأن.. اسمه "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب"، وكان -صلى الله عليه وسلم- كلما تذكّر زيد بن عمرو بعد البعثة ترحم عليه وذكره بخير وعدّه من المؤمنين.

الخلاصة
تغيير دين إبراهيم -عليه السلام- كان جريمة مسلسلة توارثها زعماء العرب ليتمكنوا من خدمة أغراضهم الدنيوية في السيطرة على قومهم، فكان فسادًا منظمًا ضرب بجذوره في أرض الجزيرة، ولهذا فقد كانوا أول من حارب دعوة التوحيد عند ظهورها.

وللأسف.. فرغم انتشار دين الله، فإن الوثنية لم تذهب بكل أحمالها، بل بقيت لها آثار في الإيمان بالخرافات وتقديس قبور الأولياء واتخاذ المساجد عليها وانتشار أعمال الدجل والشعوذة والاعتقاد في قوى أخرى إلى جانب الله، تنفع وتضر.. ونظرة واحدة لما يجري عند أي مقام لأي من أولياء الله الصالحين -رضي الله عنهم- المدفونين في مصر، يجعلنا ندرك أن الوثنية لم ترحل بعد..

فالفساد العقلي إذا أراد أن يمتد للعقيدة.. فإنه يجد لنفسه ألف شكل يتنكر به.. وألف باب يدخل منه.. طالما بقي في الناس السفه والجهل..
الكاتب: وليد فكري

مصادر المعلومات:
1- البداية والنهاية: ابن كثير.
2- موسوعة تاريخ العرب: عبدعون الروضان.
3- تاريخ العرب القديم: د.توفيق برّو.
4- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلّو.
5- موسوعة أساطير العرب: د.محمد عجينة.
6- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان.
7- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار.
8- فجر الإسلام: أحمد أمين.
9- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس.